من هم العلماء؟ منطلقات التشريف -2-

منطلقات التشريف :

 

هذه القيمة الكبيرة و القدسية الجليلة التي أضفاها الإسلام على العلم و العلماء ، تنطلق من مجموعة منطلقات متميّزة ، تنبع من صميم رؤيته للإنسان من حيث دوره و مصيره .

و لقد يمكننا تحديد هذه المنطلقات في المعالم التاليّة : 

أ- العرفان . 

ب- العمران .

ت- البيان . 

و بيانها هو :

? المنطلق الأول : العرفان .

خلق الحق تبارك و تعالى الإنسانَ في عالم الدنيا لمعرفته و عبادته . و قد قرّر هذه الحقيقة بقوله : { وَ مَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات:56] . هذه المهمّة وثيقة الصلة بجوهر الإنسان ككائن من كائنات الوجود ، و الذي هو _ حسبما كشف لنا القرآن الكريم _ : نفخة من روح الله تعالى : { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي } [الحجر:29] ، { ثُمَّ سَوَّاهُ وَ نَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ } [السجدة:9] . 

هذا " العرفان " يتحقق في مستويين اثنين :

? مستوى الوعي الكوني : في هذا المستوى حثَّ الإسلام المسلم على النظر و التأمل في آيات الله تعالى في الأنفس و الآفاق : { وَ فِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ } [الذاريات:21] ، { قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ } [يونس:101] .

? مستوى الفهم الشرعي : في هذا المستوى نبّه الإسلام المسلم على أنّ مرتبة الوحي فوق مرتبة الإدراك المجرد ، و من ثمَّ طالبه بالتبصر في معطياته ليرتقي إلى مرتبة الإدراك المؤيد : { وَ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ و َلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [النحل:44] .

مطالبة الإسلام للمسلم لتحقيق " العرفان " من خلال مستوى الوعي الكوني و مستوى الفهم الشرعي ، هي الأخرى مرتبطة بحقيقة أصيلة في نظام الإسلام المعرفي ، و هي : التوحيد هو جوهر وجود الكائنات و أساسها و نظامها و غايتها ، و لهذا كانت دعوة الرسل كافة لأقوامهم : { وَ لَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ اجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } [النحل:36] . لأنّ العبادة : معرفة توحيديّة و سلوك مستقيم ، و الطاغوت معرفة شركيّة و سلوك منحرف . 

? المنطلق الثاني : العمران .

خلق الله تعالى الإنسان للآخرة السرمديّة ، و ما وجوده في عالم الدنيا سوى فترة إعداد و تهيئة . و من هنا كانت إحدى أبرز سمات المنهج الإسلامي : سمة التوازن ، أي إنّه وضع تعاليمه على مستوى المعرفة و السلوك و التشريع ، ليكون الإنسان المسلم ، إنساناً متوازناً ، لا يغرق في الدنيا فينسى آخرته ، و لا ينجذب إلى الآخرة فيُضيّع دنياه : { وَ ابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَ لَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا } [القصص:77] . {  يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَ?هٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَ اسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا } [هود:61] .

هذا " العمران " يتحقق بأساسين :

? أساس الوعي التاريخي : كشف القرآن على أنّ هناك سنناً ربانيّة حاكمة لحركة الإنسان و المجتمعات في التاريخ ، تتجاوز الزمان و المكان . و من هنا فعلى المسلم الوعي بها و التفقه فيها لاستثمارها لصالح مهمة التعمير الحضاري المطالب به : { قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا } [آل عمران:167] . 

? أساس الاستثمار الكوني : إذا كانت مهمة الإنسان المسلم في بُعدها المعرفي هي توحيد الله تعالى و التزام منهجه في الحياة ، فإنّها في بُعدها المادي الحضاري هي استثمار ذخائر الكون من حوله لصالح القيام بالمهمّة المكلّف بها . و من هنا طالب الإسلام المسلمَ بالنظر في آفاق الكون و الحياة و اكتساب المهارات العلميّة اللازمة للاستثمار الكوني : { وَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَ?لِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [الجاثية:13] .

? المنطلق الثالث : البيان . 

سبقت حكمة الله تعالى أن يبعث رسلاً و أنبياء إلى البشريّة ، ليهدوهم سواء السبيل . فكان سبحانه يبعث في مركز كل تجمع بشري رسولاً للقيام بشؤون الهداية . و لما كان الإسلام هو رسالة الله تعالى الخاتمة إلى البشريّة ، بحكم تقاربها الجغرافي و اتحاد مشاكلها و تشابك مصايرها ، قضى سبحانه أن تكون هذه الأمة شاهدة على البشريّة كافة : { وَ كَذَ?لِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ } [البقرة:143] . و لذا فهي المكلفة بتبليغ البيان الرباني إلى افراد المجتمع البشري كله .

يتحقق هذا " البيان " في وسيلتين :

? التبليغ الرسالي : هذه الأمة مأمورة شرعاً بتبليغ الرسالة الإسلاميّة إلى العالمين : { وَ لْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَ أُولَ?ئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [آل عمران:104] . { وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَ نَذِيرًا } [سبأ:28] . و يتم هذا التبليغ بمختلف الوسائل الممكنة كتأليف الكتب و البرامج و المجالات و مواقع الإنترنت . كل هذا لتقوم الحجة على الناس جميعاً .

? الدفع الجهادي : لا يمكن للحق أن ينتصر و ينتشر إلا بقوة تحميه و تدافع عنه و تفسح له المجال ليتعرّف عليه العقل و يتذوقه الوجدان ، فالمفسدون في الأرض لم و لن يقبلوا بتاتاً أن يخضعوا للحق . و من هذا جاءت الدعوة للجهاد ضد قوى الشر الراغبة في إبقاء شعوبها تحت نير الجهل بالله تعالى و اتباع تعاليم شريعته ، لكي يسهل عليهم إخضاعهم لمصالحهم الشخصيّة و الحزبيّة و المذهبيّة : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَ لْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } [التوبة:123] .

إذن كانت تلك هي المنطلقات الثلاثة بشعبها المختلفة التي انطلق منها المنهج الإسلامي للإشادة بمنزلة العلماء و الرفع من شأنهم .

الحلقة السابقة هــنـا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين