من هم العلماء؟ التنفير من العلماء -4-

 

أحد أبرز بنود خطط المستشرقين و أتباعهم من المنافقين الجدد هو : تنفير الشباب المسلم من العلماء ، سواء القدامى أو المعاصرين ، عبر آليّة التشويه لهم و الحط من أقدارهم و التسخيف لأقوالهم .

من بين هذه الأساليب التي ينتهجها هؤلاء المفسدون قولهم : الدين ليس علماً ، و مَن يشتغلون به لا يصح وصف العلماء لهم ، بل الذين يستحقون هذا الوصف بجدارة هم الذين قدموا خدماتهم الجليلة للبشريّة ، و كانوا عناصر فعّالة في تطورها و رفاهيّتها !! و بعضهم لتأييد كلامه يستدعي قول الله تعالى : { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } [فاطر:28] . ذاكراً بأنّ هذا التنويه القرآني جاء بعد ذكر بعض مظاهر قدرة الله تعالى في الكون ، فثبت بذلك أنّ مَن يليق بهم وصف العلماء : هم علماء الكون و الحياة و الإنسان . أما مَن يسمون بالفقهاء و العلماء فهم في الحقيقة عقبة كؤود في طريق النماء و مخدرات لعقول أفراد المجتمع ، أي إنّهم لم يقدموا للمجتمع شيئاً نافعاً فضلاً عن الإنسانيّة الواسعة !!

و نحن نرد هذا الهراء السخيف بذكر الحقائق التاليّة :

ذكرنا سابقاً أقسام العلم ، و أنّ الوحي الرباني هو علم القيمة كما اصطلحنا عليه ، من جهة اشتغاله بحقائق الوجود الكبرى و قيمه المتعالية و ضبطه لحركة الإنسان في صناعة الحضارة و تنميتها عبر استثمار ذخائر الكون و الحياة من حوله استغلالاً لـ « التسخير الرباني » لهما للإنسان ، كما قال سبحانه : { وَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ } [الجاثية:13] . 

و من هنا فالمغالطة التي وقع فيها هؤلاء الذين ينظرون بعين عوراء ، هي أنّهم لم يفرّقون بين مرتبتي العلم و مجال اختصاصهما !! 

أما الآية الكريمة التي يحتجون بها دائماً ، فهي في جوهرها حجة عليهم ، و بيان ذلك هو : أقصى ما يصل إليه الإنسان من دراسته للكون و الحياة من حوله هو الانتهاء إلى حقائق عقليّة بديهة في فطرته ، و هي زيادة اليقين بضرورة وجود الإله الخالق ، و فهم عظمته و كماله ، باعتبار أنّ الكون مصمم تصميماً دقيقاً للغاية و منظم تنظيماً فائق الروعة ، و كل هذا يؤكد بديهة العقل : كل شيء له سبب أعلى ينتهي إليه ، و أنّ هذا الفاعل الأعلى له غاية معيّنة من تصميمه هذا الشيء بهذه الطريقة . أي إنّ العقل الإنساني حينما يكون مجرّداً عن الوحي الرباني ، فإنّ يدرك الله تعالى إدراكاً مجملاً فقط . أما مقام الخشية الذي تتحدث عنه الآية فلا يكون بدون إلمام بعلم القيمة أي علم الوحي الذي يعرّف الإنسانَ بالخالق العظيم ، و الطريق إليه ، و سر وجود الإنسان ، و المصير الحتمي بعد الموت . و لو صح أنّ مطلق علماء الكون يخشون الله تعالى فما كان ليكون هناك عالم واحد منهم ملحداً ، حائراً ، شارداً ، و الواقع أنّ جمهورهم خصوصاً في الغرب لا يعرفون عن الله تعالى أكثر مما يعرفه الأمي الذي يزور الكنيسة عندهم يوم الأحد !!

و لأجل هذا نقول : هذه الآية المباركة تضارعها الآيات التي تدعو المسلم للتفكر في بدائع خلق الله تعالى في الأنفس و الآفاق ، إذ كان هذا التفكر في روائع و عجائب الخلق يورث المسلم التقي النقي مزيداً من الإيمان و اليقين و الخشوع و الخشية و المحبة و التعظيم و الرجاء و الخوف ، و غير هذا من أعمال القلوب ، كما وردت الإشارة إليه بقوله سبحانه : { الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَ قُعُودًا وَ عَلَى? جُنُوبِهِمْ وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَ?ذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ  } [آل عمران:191] . و بالتالي فمهما علم الإنسان و خبر من أسرار الكون و الحياة و كان مبتوت الصلة بالخالق سبحانه ، لا يعرفه صحيح المعرفة ، و لا يذكره و لا يعبده و لا يشتاق إليه ، فإنّ علمه لا تكون له قيمة في ميزان الله تعالى ، حتى و إن كان سبب تطور المجتمع و رفاهيّته و تقدمه .

إذا جئنا الآن إلى مبحث : علاقة علماء الوحي الرباني بعلماء العمران الحضاري بمختلف تخصصاتهم ؟ 

نقول : بما أنّ علم الوحي الرباني هو علم القيمة ، فإن مهمّة علماء الشريعة هي ممارسة فعل التقويم لنشاطات الإنسان المختلفة ، كما التقويم لنشاطات علماء الوسائل المادية ، من خلال وضعها تحت مجهر تعاليم الشريعة و قواعدها و مقاصدها ، فما وافقها قُبل و ما خالفها رُفض . 

إذن علماء الوحي الرباني لا يمكنهم الحد من نشاطات علماء الوسائل المادي لاكتشافات أسرار الكون و ذخائر الحياة ، و إنما دورهم هو التوجيه و التقويم انطلاقاً من قواعد المنهج الرباني .

عندما ألقت أمريكا قنبلتيها النوويتين على اليابان ، كان الأمر في إطار العلم المادي طبيعيّاً جدّاً . فهناك حرب بين البلدين ، و هناك سلاح قوي فتّاك . لكن عندما نضع هذا السلاح و هذا التصرّف تحت مهجر العلم الرباني ، فهل يمكن للعلماء الشريعة الموافقة عليه ؟ بكل يقين : لا يمكنهم ذلك ، لأنّه مناقض تماماً لتعاليم الوحي و قواعد الشريعة و مقاصدها المتعلّقة بالإنسان و العمران .

عندما يقرر علماء الاقتصاد أن الفوائد المصرفيّة ، و أن فتح دور الزنا و حانات الخمر ، و أن السياحة المنفلتة ، كل هذه  تُدر الأرباح الطائلة في خزينة الدولة . فهذا التقرير منهم في إطار علم الاقتصاد المادي أمر طبيعي جدّاً . لكن عندما نضعه تحت مهجر علم الشريعة لنعرف قيمته الشرعيّة ، هل يمكن للعلماء الموافقة عليه ؟ بكل توكيد : لا يمكنهم ذلك ، لأنّه مناقض تماماً لتعاليم الوحي و أهداف التشريع المتعلّقة بالإنسان و العمران .

و قس على هذا كل شيء آخر .

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين