من هدي القرآن الكريم.. (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ)

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله حمد الشاكرين والصلاة والسلام على رسوله الأمين.

آيات ثناء المولى سبحانه وتعالى على نبيه الكريم ومدحه وتكريمه له متنوعة ومتعددة في القرآن الكريم. ولعل من أعظم آيات الثناء على النبي عليه الصلاة والسلام قوله تعالى في سورة القلم

(وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم: 4)

لقد تمكّن منه صلى الله عليه وسلم الخلق الكريم حتى قالت عنه أم المؤمنين رضي الله عنها "كان خلقه القرآن".

كما أثنى ربنا سبحانه على نبينا عليه الصلاة والسلام وأسبغ عليه صفتان هما من أسماء الله سبحانه وتعالى: الرؤوف الرحيم؛ فقال عزّ من قائل: (لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ) (التوبة: 128)

بل قد تفضّل الله سبحانه على نبيه عليه الصلاة والسلام أيّما تفضيل في قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) (الأنبياء: 107) وقوله تعالى: (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (التوبة: 61)

كما وصفت آيات القرآن الكريم الرسول الخاتم بأنه نور؛ هكذا بإطلاق..

(يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين) (المائدة: 15)

كذلك وصفته آيات سورة الأحزاب بالسراج المنير: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا (46))

وقد تكّرم ربنا سبحانه على صفيه صلى الله عليه وسلم أن جعله محل رعاية المولى الجبار القهار وحفظه وحراسته فقال سبحانه: (وَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ) (الطور: 48)

ونمضي معا في آيات كثيرة تبين فضل هذا النبي الكريم الهادي إلى صراط مستقيم.. (صِرَٰطِ ٱللَّهِ ٱلَّذِى لَهُۥ مَا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلْأَرْضِ أَلَآ إِلَى ٱللَّهِ تَصِيرُ ٱلْأُمُورُ) (الشورى: 53)

كما نقرأ سورة الكوثر وسورة الشرح وسورة الضحى وآية الأحزاب (56) التي تأمرنا بالصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقرأ آيات سورة الفتح عن غفران المولى سبحانه ما تقدم من ذنب النبي وما تأخر وإتمام النعمة والهداية إلى الصراط المستقيم والنصر العزيز المكين ولنختم هنا بآية هي غاية البر والتشريف والتعظيم؛ آية يقسم بها قيّوم السماوات والأرض بحياة حبيبه وصفيه وخليله ونبيه الصادق الأمين.. (لعمرك إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) (الحجر: 72)

ثناء وحمد وتشريف وتعظيم لهذا النبي الكريم الحريص على هداية الناس وإيمانهم والذي يشق على نفسه ويثقل عليها مشقة الناس وعنتهم..

لكن القرآن الكريم لا يتركنا هكذا مع هذه الصفات والخصال بل يقرر الحقائق ويبين الثوابت وينصب الأسس ويضع الموازين..

فمع حرصك أيها النبي الكريم وخوفك على قومك والمؤمنين ومع أنك بالمؤمنين رؤوف رحيم وهاتان صفتان ما وصف بهما رب العزة سبحانه إلا ذاته العلوية (لَقَد تَّابَ اللَّه عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) الآية 117 من سورة التوبة نفسها التي وصف فيها نبيه الكريم أنّه (بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ) (الآية 128)

مع هذا كله فالحقيقة الأزلية الكبرى هي أن أمر الهداية والضلال هو أمر الله سبحانه وتعالى رب العالمين. وهكذا أيها الرسول الحبيب (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)(القصص: 56) (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ) (آل عمران: 128) (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ) (الحجر: 97)

ثم يأتي التوجيه والإرشاد الرباني إلى المبعوث رحمة للعالمين أن هوّن عليك ولا تبتئس.. (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) (فاطر: 8) (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (الشعراء: 3) (وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) (النمل: 70) (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) (هود: 12) (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا) (الكهف: 6) (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ ۚ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ) (النحل: 128)

أيها الرسول.. أيها النبي.. يعلم ربك حرصك وخوفك على الناس وعلى المؤمنين؛ لكن ليس لك من الأمر شئ.. يعلم ربك كم ترغب في أن يصير الناس إلى الإيمان والإسلام وفيهما الخير كل الخير في الدنيا والآخرة؛ لكن أمر الهداية ليس أمرك..

ثم مع كل هذا الحرص والخشية والخوف لا تثقل نفسك ولا تكلفها أكثر مما تستطيع. لا تحزن لصد صاد ولا لتعنت متعنت. لا تهلك نفسك غمّا وهمّا أن النّاس لا يستجيبون لدعوتك وهديك وكل رجاؤك الخير لهم دينا ودنيا. لا تكن أيّها النبي في شدة وحرج وضيق من إنكار المنكرين وجحد الجاحدين. لا تشغل نفسك أسفا ولا تحزن فالحزن لا يجدي ولا ينفع بل يضعف الهمّة ويوهن القوة. ومن جميل ما قرأت في أمر هذا الحزن ما ذكره الشيخ محمد سيد طنطاوي في تفسير الوسيط "والمقصود بالنهى عن الحزن: النهى عن لوازمه، كالإكثار من محاولة تجديد شأن المصائب، وتعظيم أمرها، وبذلك تتجدد الآلام، ويصعب نسيانه." وكم منّا عاش هذا وجرّبه!

أيتها الأم؛ أيها الأب..

أيتها الأخت؛ أيها الأخ..

أيتها الزوجة؛ أيها الزوج..

أيتها المربية؛ أيها المربي..

يا أيّا كان مهما كنت بأيّ كان رحيما عطوفا ودودا ومهما صرت بشأنه قلقا مهتما مكترثا آسفا حزينا مهموما.. لن تكون كما هو النبي الكريم الذي وصفه ربه سبحانه بأنه رحمة للعالمين وأنه بالمؤمنين رؤوف رحيم..

علّم وأَرشد واِنصح وبيّن؛ أما الاستجابة والتلبية فليس شأنك.. حذّر وأنذر واشرح العواقب وفصّل؛ لكن لا سبيل لك إلى أن يخشى الناس إنذارك.. لك أن تقول ما تشاء وتنصح كما تشاء وتدعو كيف تشاء وتتضرع إلى الله الكريم أيّما تضرع؛ لكن ارفق بنفسك واحذر الانغماس المفضي إلى الهمّ واليأس والإحباط.. والزم أنّ الأمر لم يكن لنبيّك الكريم حتى يكون لك!

أن يصير العاصي إلى توبة.. أن يصير الجاهل عالما.. والطائش حكيما.. والمتكبر المتغطرس عطوفا ودودا.. والخامل الكسلان صاحب همّة.. ومُتبع الهوى مسلوب الإرادة صاحب قرار وعزيمة.. هذه أمنيتك لكن أبدا ليس شأنك! هذا أمر قد قرره المولى سبحانه من قبل لذاته العليّة.. فلم العنت والضجر والقهر والحزن! إنّك لا تهدي من أحببت.. كما مرّ سابقا.

فانتبه أيّها الإنسان وتدبّر وامتثل واقتدِ.. وحاذر وارقب وإيّاك والتجاوز عن غفلة أو زحمة أشغال وتذكّر هدي القرآن الكريم وتحذيره الجليّ والخفيّ للمؤمنين.. واقرأ إن شئت وتمعّن في قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (الحجرات: 1)

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين