من مواعظ الصحف الأولى عن الموت (2)

جاء في وصيّة أبي بكر الصدّيق قبل وفاته لعمر رضي الله عنهما:

"... أما إن حفظت وصيتي لم يكن غائب أحب إليك من الموت، وأنت لا بد لاقيه، وإن أنت ضيعت وصيتي لم يكن غائب أبغض إليك من الموت ولا تعجزه.. " سنن سعيد بن منصور 5/132 ـ 134/ تفسير سورة الأعراف وهو في مصنف ابن أبي شيبة 7 /92/.    

وعن ربيع بن خيثم رحمه الله قال: " ما غائب ينتظره المؤمن خير من الموت " مصنف ابن أبي شيبة 7/145/ كلام ربيع بن خيثم /34840/.

ويقول أويس بن عامر القرنيّ: " يا أهل الكوفة ! توسّدوا الموت إذا نمتم، واجعلوه نصب أعينكم إذا قمتم ".

كان الربيع بن خثيم رضي الله عنه يقول: " أكثروا ذكر هذا الموت، الذي لم تذوقوا قبله مثله "، وحفر لنفسه قبراً، وأخذ ينزل فيه كلّ يومٍ ويتمدّد، ثمّ يقوم ويعظ الناس بما يرقّق قلوبهم.

ويقول سعيد بن جبير رضي الله عنه: " لو فارق ذكر الموت قلبي لخشيت أن يفسد عليّ قلبي ".

ووعظ الناس عمر بن ذرّ رضي الله عنه فقال: " أمّا الموت فقد شهر لكم، فأنتم تنظرون إليه في كلّ يومٍ وليلةٍ، من بين منقول عزيز على أهله، كريم في عشيرته، مطاع في قومه، إلى حفرة يابسة، وأحجارٍ صمّ، ليس يقدر له الأهلون على وساد إلاّ خالطه فيه الهوامّ، فوساده يومئذٍ عمله، ومن بين مغموم غريب، قد كثر في الدنيا همّه، وطال فيها سعيه، وتعب فيها بدنه، جاءه الموت قبل أن ينال بغيته، فأخذه بغتة، ومن بين صبيّ مرضع، ومريضٍ موجع، ورهنٍ بالشرّ مولع، وكلّهم بسهم الموت يقرع ".

 

وقال عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود رضي الله عنه: " كم من مستقبل يوماً لا يستكمله، ومنتظرٍ غداً لا يبلغه، لو تنظرون إلى الأجل ومسيره لأبغضتم الأمل وغروره ".

وقال أحد تلامذة سفيان الثوريّ رضي الله عنه: " ما جلست مع سفيان مجلساً إلاّ ذكر الموت، وما رأيت أحداً أكثر ذكراً للموت منه ".

ووعظ الناس عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه فقال: " قبور خرّقت الأكفان، ومزّقت الأبدان، ومصّت الدم، وأكلت اللحم.. ترى ما صنعت بهم الديدان.؟! محت الألوان، وعفّرت الوجوه، وكسرت القفار، وأبانت الأعضاء، ومزّقت الأشلاء..

ترى أليس الليل والنهار عليهم سواء.؟! أليسوا في مدلهمّة ظلماء.؟!

كم من ناعم وناعمة أصبحوا وجوههم بالية، وأجسادهم عن أعناقهم نائية، قد سالت الحدق على الوجنات، وامتلأت الأفواه دماً وصديداً، ثمّ لم يلبثوا والله إلاّ يسيراً، حتّى عادت العظام رميماً.

قد فارقوا الحدائق، فصاروا بعد السعة إلى المضائق.

يا ساكن القبر غداً ! ما الذي غرّك من الدنيا.؟! أين دارك الفيحاء.؟! وأين رقاق ثيابك.؟! ليت شعري كيف ستصبر على خشونة الثرى.؟! وبأيّ خديّك يبدأ البلى.؟! ".

وعلا صوت الحسن البصريّ رحمه الله، وهو يعظ الناس ويقول " المبادرة المبادرة ! فإنّما هي الأنفاس، لو حبست لانقطعت عنكم أعمالكم، إنّكم أصبحتم في أجل منقوص، والعمل محفوظ، والموت والله في رقابكم، والنار بين أيديكم، فتوقّعوا قضاء الله عزّ وجلّ في كلّ يوم وليلة.

لقد فضح الموت الدنيا، فلم يترك لذي لبّ فرحاً.

وإنّ أمراً هذا الموت أخره، لحقيق أن يزهد في أوّله، وإنّ أمراً هذا الموت أوّله، لحقيق أن يخاف أخره ".

ويقول أيضاً: " إنّك والله لأن تصحب أقواماً يخوّفونك حتّى تدرك أمناً، خير لك من أن تصحب أقواماً يؤمّنونك حتّى تلحقك المخاوف ".

قال الحسن بن عبد العزيز الجرويّ شيخ الإمام البخاريّ: " من لم يردعه القرآن والموت، فلو تناطحت الجبال بين يديه لم يرتدع ".

قال بعض الشعراء:

يا ربّ   عبدك   قد أتا                           ك وقد أساء  وقد هفا

يكفيه    منك   حياؤه                        من  سوء ما قد أسلفا

حمل الذنوب على الذنو                               بِ  الموبقات  وأسرفا

وقد استجار بذيل عَف                        وك من عقابك ملحفا

يا ربّ  فاعفُ  وعافه                           فلأنت  أولى  من عفا

وقال آخر:

أنا  في  القبر   رهين               قد  تخلّى  الأهل  عنّي

بذنوبي      أسلموني              خبت إن لم تعف عنّي

فارحم  اليوم  مشيبي             وارحم   اللهمّ   سنّي

وارحم اللهمّ  ضعفي              لا  يخيب  اليوم   ظنّي

وأوصى أبو العتاهية أن يكتب على قبره:

أذنَ حيّ تسمّعي                     اسمعي ثمّ عِي وَعِي

أنا رهن بمضجعي                    فاحذري مثل مصرعي

عشت تسعين حجّةً        ثمّ وافيت مضجعي

ليس شيء سوى التقى        فخذي منه أو دعي

وقال أيضاً:

أنلهو وأيّامنا تذهبُ                          ونلعبُ والموت لا يلعبُ

عجبت لذي لعبٍ قد لها                    عجبت وما لي لا أعجبُ

أيلهو ويلعبُ مَن نفسُه                    تموت ومنزله يخربُ

نرى كلّ ما ساءنا دائماً                      على كلّ ما سرّنا يغلبُ

نرى الليل يطلبنا والنهار                   ولم ندرِ أيّهما أطلبُ

أحاط الجديدان جميعاً بنا                   فليس لنا عنهما مهربُ

وكلّ له مدّة تنقضي                         وكلّ له أثر يُكتبُ

ويقول الشاعر:

إن تبق تفجع بالأحبّة كلّهم              وفناءُ نفسك لا أبا لك أفجعُ

وأقول:

فاربأ بنفسك أن تكون كرملة                     تاهت بها الأمواج في الشطآنِ

عش ما بدا  لك  سالماً             في  ظلّ   شاهقة  القصورِ

يُسعى عليك بما اشتهيـ                  ـت في الرواح وفي البكورِ

فإذا  النفوس  تقعقعت                   في  ضيق حشرجة الصدورِ

فهناك     تعْلم   موقناً                     ما  كنتَ   إلاّ   في  غرورِ

وقال محمّد بن بشير:

ويلٌ   لمن   لم  يرحم  الله                            ومن تكون النار مثواه

والويل لي من كلّ يوم أتى              يُذكّرني الموت وأنساه

كأنّه  قد  قيل  في  مجلسٍ                        قدكنت آتيه وأغشاه:

صار   البشيريّ   إلى  ربّه                              يرحمنا     الله    وإيّاه

سُمع بعض المحتضرين عند احتضاره يلطم وجهه ويقول: { يا حسرتا على ما فرّطت في جنب الله }.

وقال آخر عند احتضاره: " سخرت بي الدنيا حتّى ذهبت أيّامي ".

وقال آخر عند موته: " لا تغرّنكم الحياة الدنيا كما غَرّتني ".

وقال ابن السمّاك: " احذر السكرة والحسرة، أن يفجأك الموت وأنت على الغِرّة فلا يصف واصفٌ، قدر ما تلقى، ولا قدر ما ترى ".

فانظر لنفسك يا أخي ! واغتنم وقتك، فإنّ من جدّ وجد، وليس من سهر كمن رقد، والثواء قليل، والرحيل قريب، والطريق مخوف، والاغترار غالب، والخطر عظيم، والناقد بصير " [الرقائق للشيخ محمّد أحمد الراشد ص/125/، نقلاً عن اقتضاء العلم العمل للخطيب البغداديّ ص/16/].

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين