من مقاصد الإصلاح السياسي في الإسلام

 من مقاصد الإصلاح السياسي في الإسلام

 

د. وصفي عاشور أبو زيد

السياسة في الاسلام: كما أورد ابن القيم عن ابن عقيل رحمهما الله تعالى: ما كان فعلاً يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح: وأبعد عن الفساد؛ وإن لم يضعه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا نزل به وحي(1)، وهو ما كانت حياة النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة من الناحية السياسية -ومفهومُها شامل- نموذجاً مثالياً للإصلاح؛ ومن بعده الخلفاء الراشدون.

ويمكننا مما سبق أن نقول: إن الاصلاح السياسي هو الوصول بأحوال الناس وشؤونهم إلى الوضع الصحي الصالح الذي يجعل حياة الناس كريمة مستقرة مطمئنة في ظل تعليمات القرآن والسنة وتجربة الراشدين.

للإصلاح السياسي مقاصد وغايات في الإسلام وهي ما تصلح به الدنيا لتنتظم أحوالها وتتحقق مصالح العباد فيها والحديث عن مقاصد الإصلاح السياسي يتطلب استحضار جملة من المقاصد الكبرى التي يهدف الإصلاح السياسي لتحقيقها في مؤسسات المجتمع والدولة ونظمها؛ لأنه لا قيمة للاصلاح السياسي إذا لم يُفْضِ إلى إحداث التغيير المطلوب في المجتمعات وأنظمة الحكم.

ومن المهم في هذا الصدد أن نسترشد بمقولة الماوردي حين قال: «اعلم أن ما به تصلح الدنيا حتى تصير أحوالها منتظمة: وأمورها ملتثمة؛ ستة أشياء هي قواعدها وإن تفرعت؛ وهي: دين متبع؛ وسلطان قاهر، وعدل شامل؛ وأمن عام. وخصب دائم؛ وأمل فسيح(2)، : لكننا سنتقدم على كلامه بمقصد أعم وأشمل وأدخل في الأصلية دون التبعية؛

إذ إنه مقصد المقاصد وغاية الغايات: وهو

امتثال أمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.

المقصد الأول: امتثال أمر الله تعالى:

إن أول المقاصد المرجوة من كل عمل أو تصرف هو السعي لتحقيق مراد الله تعالى بامتثال أمره واجتناب نهية والسعي لرضاه.

والقرآن الكريم قد تحدث عن الفساد والإفساد والصلاح الإصلاح؛ فقد أكد القرآن الكريم على الصلاح والإصلاح أونوه

بالصالحين والمصلحين؛ قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِين} [الأعراف:170]

وفي بيان قانون من القوانين الإلهية في الاجتماع البشري ذكر أن اللّه تعالى لا يمكن أن يهلك قرية وأهلها مصلحون إلا إذا فسدوا وظلموا، قال عزَّ شأنه: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُون}[هود:117].

 وفي المُقابل: أورد القرآن الكريم أن الله تعالى لا يحب الفساد؛ ولا يحب المفسدين: {وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَاد}[البقرة:205]

وحذَّر سبحانه وتعالى من عاقبة المفسدين: فقال: {وَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِين}[الأعراف:86]، ووضع الله تعالى قاعدة إلهية وسُنة ربانية جارية: حين قال: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِين}[يونس:81].

وهذا يؤكد أن من مقاصد الإصلاح السياسي؛ بل من طليعة هذه المقاصد. هو امتثال أمر الله تعالى والدخول في دائرة

رضاه والبعد عن دائرة سخطه: ومن المعلوم أن كل ما يأمرنا به وينهانا عنه فيه صلاحنا دنيا وأخرى: وهذه مجموعة من المقاصد مجتمعة في مقصد واحد هو امتثال أمر الله تعالى.

المقصد الثاني: امتثال أمر رسول الله وإقامة خلافته والنيابة عنه:

أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتأمير أمير في السفر، فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «إذا كنم ثلاثة في سفر فأمّروا عليكم أحدكم: فذاك أميرٌ أمّرَه رسول الله»(3).

وإذا كان هذا هو الأمر في شأن السفر وبحق ثلاثة أفراد فمن باب أولى انتظام مصالح الناس باختيار حاكم يحرس دينهم ويسوس دنياهم في ضوء دينهم.

ومن باب الإصلاح السياسي نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يتكسب الحكام والولاة من مواقعهم ومناصبهم فقد أخرج البخاري ومسلم بسندهما عن أبي حميد الساعدي قال: اسْتَعَمَل النبيّ صلى اللّه عليه وسلم رَجُلا من الأزد يقال له ابن الأتْبيّة على الصَّدَقَة، فلما قدمَ قال: هذا لكُمْ وهذا أهدي لي، قال: «فهَلا جَلسَ في بَيت أبيه أو بيت أمِّه فينظر يُهَدى له أم لا؟ والذي نفسي بيده لا يأخذ أَحَد منه شيئا إلا جاءَ به يوم القيامة يَحْمِله على رَقبَته. إن كان بَعيرًا له رُغاءٌ أو بْقَرْةٌ لها خُوارٌ أَوْ شاة تَيْعر ثم رفع بيده حتى رَأينا عُفْرة إبطيه: اللهُمٌ هل بلَّغت اللهم هل بلَّغت ثلاثاً»(4).

وقد قرَّر علماء الفقه السياسي أن منصب الخلافة هو خلافة عن النبي ونيابة عنه. فهذا ابن خلدون يقول: «الخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها.. فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به»(5)!.

وعرفها ابن أبي زيد القيرواني فقال: رئاسة عامة في أمور الدين والدنيا نيابة عن النبي صلى الله عليه وسلم(6).

وقيام الحاكم بعد الحاكم يخلف بعضهم بعضاً لتحقيق هذه الوظيفة هو امتثال كذلك لأمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم؛ وعمل بهدي الصحابة الذين رفضوا أن يقيموا ليلة واحدة بغير خليفة حتى أخروا لهذا الغرض دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ومن المعلوم أن الإصلاح السياسي لن يتم بغير حاكم: وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

المقصد الثالث: تحقيق غايات خلق الانسان في الأرض:

خلق الله تعالى الإنسان: وجعل منه خليفة في الأرض؛ وطلب منه عمارتها؛ وأمره بعبادته. وقد قرَّر الراغب الأصفهاني أن كل نوع من الخلق إنما أوجده الله تعالى لفعل يختص به؛ ثم قال: «والفعل المختص بالإنسان ثلاثة أشياء:

1- عمارة الأرض المذكورة في قوله تعالى: {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}[هود:61]؛ وذلك تحصيل ما به تزجية المعاش لنفسه ولغيره.

2- وعبادته المذكورة في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون}[الذاريات:56]، وذلك هو الامتثال للباري عز وجل في أوامره ونواهيه.

3- وخلافته المذكورة في قوله تعالى: {وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُون}[الأعراف:129] الآيات. وذلك هو الاقتداء بالباري سبحانه على قدر طاقة البشر في السياسة باستعمال مكارم الشريعة(7).

فخلافة الإنسان في الأرض وصلاحه مرهونان بصلاح الأرض؛ وعمارته لها وعبادته فيها لا تكون إلا حال صلاحها الشامل.

المقصد الرابع: حفظ نظام المجتمعات والأمة:

لا يحفظ نظام المجتمع إلا بصلاح الإنسان. ولا ينصلح الإنسان إلا بإصلاح المجتمع إصلاحاً شاملاً. وفي حالة انتشار الفساد وممارسة الإفساد لا يمكن للمجتمع أن يكون مستقراً ولا مستمرا ولا يمكن أن يتمتع بقوة نسيجه التي نزلت من أجلها كثير من نصوص الشريعة الإسلامية.

وقد قرَّر العلامة محمد الطاهر بن عاشور أن «المقصد العام من التشريع هو حفظ نظام الأمة: واستدامة صلاحه بصلاح المهيمن عليه وهو نوع الإنسان(8).

وينقل عنه تلميذه العلامة محمد الحبيب بلخوجه قوله: «والأديان السماوية كلها تقصد ممن خوطبوا بها حفظ نظام العالم وصلاح أحوال أهله؛ فوظيفتها تلقين أتباعها ما فيه صلاحهم مما قد تحجبه عنهم مغالبة الميول؛ وسوء التبصّر في عواقب الأمور؛ جاء الإسلام فكان خاتمة الأديان: واتّسم بعامية الرسالة: واتسعت أصول دعوته وفروعها وامتزج فيه الدين بالشريعة: فضبط للأمة أحوال نظامها الاجتماعي في تصاريف الحياة كلهاء وألزم المتمسكين بعقيدته الخاضعين لسلطانه اتباع ما خطط لهم من قوانين في المعاملات وغيرها.

واقتضى هذا الوصف أن تكون للإسلام دولة تمكن القائمين عليها من تحكيم شريعته، وتنفيذ قوانينه. قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ}[آل عمران:19] وقد دعا الباري سبحانه إلى وجوب الأخذ بها أي بالفطرة، وبما ترتبط به من التوحيد؛ والحق؛ والعدل؛ قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُون}[الروم:30]

فتكونَ الفطرة والتوحيد والحق والعدل لدى المؤمنين استجابة لأمر اللّه وتحقيقاً لإرادته. واتخاد تشاريعه وأحكامه أساساً لإقامة أصول النظام الاجتماعي بينهم، وفي ذلك إبراز حقائقه وخصائصه: وبيان سبل الإصلاح للفرد وللمجتمع.

ويعقب بلخوجه قائلا: «وينفُذ شيخنا رحمه الله من هذه الحقائق الإسلامية إلى الصميم من موضوعه المتمثل في الإصلاح بأشكاله المختلفة؛ فيبحث عن جملة قضايا من بينها ما نوه به من: إصلاح الاعتقاد. وإصلاح التفكير وإصلاح العمل.

وإذا كانت أصول عقيدة الإسلام هي وحدانية الله تعالى: وأنها أساس تفكير الإنسان فيما هو مرتبط بحاجاته؛ نبا عنه الباطل؛ وتلاشت من حوله الأوهام: وكان التهيؤ لقبول التعاليم السديدة؛ والعمل الصالح؛ وإصلاح التفكير بحسب التدبير لشؤون الحياة العاجلة والآجلة؛ ابتغاء النجاح في الحياتين الدنيا والأخرى.

المقصد الخامس: جلب المصالح وتكثيرها ودرء المفاسد وتقليلها:

نزلت الشريعة الإسلامية لمقصد أكبر وأعظم وهو جلب المصالح للعباد ودرء المفاسد عنهم: فاللّه تعالى «أمرهم بتحصيل مصالح إجابته وطاعته؛ ودرء مفاسد معصيته ومخالفته؛ إحساناً إليهم: وإنعاماً عليهم؛ لأنه غني عن طاعتهم وعبادتهم. فعرفهم ما فيه رشدهم ومصالحهم ليفعلوه؛ وما فيه غيهم ومفاسدهم ليجتنبوه؛ وأخبرهم أن الشيطان عدو لهم ليعادوه ويخالفوه. فرتب مصالح الدارين على طاعته واجتناب معصيته؛ فأنزل الكتب بالأمر والزجر والوعد الوعيد ولو

شاء الله لأصلحهم بدون ذلك؛ ولكنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد؛ وما ربك بظلام للعبيد(10).

وقال الإمام ابن تيمية: «الشَرِيعَةٌ جَاءتَ بتَحصيل المصَالح وتكميلها وَتَعطيلٍ المَفَاسد وَتَقَليلهَا وَأَنْهَا ترجِّح خير الخيرين وَأخفَّ الشَرّيْن. وَتحصيل أعظم المصَلَحَتَيْن بتفويت أَدَنَاهُمَا وَتَدَفَع أَعَظمَ الْمفَسَدَتَين باَحَتمَال أَدَناهُمَا.

وقال تلميذه الإمام ابن القيم: «الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها ورحمة كلها. ومصالح كلها، وحكمة كلها؛ فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور؛ وعن الرحمة إلى ضدها؛ وعن المصلحة إلى المفسدة؛ وعن الحكمة إلى العبث؛ فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل(12).

فهذا المقصد من المقاصد الأصلية للإصلاح السياسي، فالغرض الكبير المجتمعي من القيام بالإصلاح السياسي هو تحقيق أكبر قدر من المصالح؛ ودرء أكبر قدر من المفاسد، حتى على مستوى المصالح تجلب أعظم المصلحتين وتفوت أدناهما، وعلى مستوى المفاسد تدرأ أعظم المصلحتين وتفوت أدناهما.

هذه جملة من مقاصد الإصلاح السياسي في الإسلام: ولا شك أن من هذه المقاصد تتفرع مقاصد أخرى كثيرة تعتبر تبعا لها وفروعا عنها، ومنها: حماية المجتمع من الاستبداد ومخاطره: وتوسيع دائرة الشورى من خلال منظومة الإصلاح السياسي؛ وتمكين الأمة من أداء وظائفها: في اختيار حكامها وتقويمهم؛ واستثمار ثرواتها؛ وتحقيق وحدتها. وإقامة العدل الشامل؛ وتوقير الرفاه الدائم. وكفالة الحريات العامة؛ فكل هذه مقاصد تتفرع على المقاصد السابقة» وهي

مقاصد معتبرة تبين أهمية القيام بالإصلاح السياسي وضرورته؛ لما له من منافع كبرى تعود على الفرد والمجتمع والأمة.

الهوامش

(1) الطرق الحكمية في السياسة الشرعية: 29. دار عالم الفوائد. 1428ه.

(2) أدب الدنيا والدين: 133. دار مكتبة الحياة. 1986 م

(3) أخرجه ابن القطان في الوهم والإيهام: 5/290, وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 5/258: «رجاله رجال الصحيح خلا عمار بن خالد وهو ثقة، وقال: «إسناده صحيح». وقال شعيب الأرنؤوط في تخريج مشكل الآثار 5/43: عن رواية أبي الأحوص عن عبد الله وإسناده صحيح على شرط مسلم.

(4) أخرجه البخاري (2597): ومسلم (1832) واللفظ للبخاري.

(5) تاريخ ابن خلدون 239/1. دار الفكر. بيروت. الطبعة الثانية. 1408ه - 1988م.

(6) الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني 1/ 106 دار الفكر. 1415ه - 1995م

(7) الذريعة إلى مكارم الشريعة: 83-82. تحقيق أستاذنا د. أبو اليزيد أبو زيد العجمى. دار السلام - القاهرة. 1428ه - 2007م

(8) مقاصد الشريعة الإسلامية: 0. تحقيق محمد الطاهر الميساوي. طبعة دار النفائس. 1999م.

(9)  محمد الطاهر بن عاشور وكتابه مقاصد الشريعة الإسلامية لابن عاشور: 675/1. طبعة قطر. 5ه. 2004م.

(10) القواعد الكبرى للعز بن عبد السلام: 1/ 6-5. طبعة دار القلم. الطبعة الأولى. 1421ه. م

(11) مجموع الفتاوى: 20: 48. طبعة مجمع الملك فهد. 1416ه/1995م.

(12) إعلام الموقعين عن رب العالمين: 3/ 11. دار الكتب العلمية. بيروت. الطبعة الأولى. 1411ه - 1991م

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين