من كانت الدنيا همه

هذه خطبة جمعة ألقيتعل منذ أكثر من عشرين سنة في جامع الرضا بجدة الذي كنت أخطب فيه منذ ١٤٠٩ إلى عام ١٤٢٠، لتكون تذكرة لنفسي ولإخواني، ولتعبر عن منهجي في اختيار بعض الموضوعات التربوية التي تزكي النفوس، وترفع الهمم إلى معالي الأمور. سائلاً المولى سبحانه أن يحسن ختامنا وعاقبتنا في الأمور كلها، والشكر للأخ الكريم طارق عبد الحميد الذي قام بتنضيد هذه الخطب وتجديد نشرها.

بسم الله الرحمن الرحيم

قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي يرويه زيد بن ثابت: (ومن كانت الدنيا نيته فرَّق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له ومن كانت الآخرة نيته جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة) سنن ابن ماجه (4115).

هذا الكلام من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، وفيه الموازنة بين من كانت الدنيا نيته، وبين من كانت الآخرة نيته.

إنَّ من كانت الدنيا نيته كان معذباً في الدنيا، وخاسراً يوم القيامة، إنه موزَّع الاهتمامات، يمزق نفسه هذا التمزق في أموره، وكان فقيراً ولو ملك الكثير.

ومن كانت الآخرة نيته كان سعيداً في الدنيا، فائزاً يوم القيامة، إنه موحَّد الاهتمامات، اجتمعت نفسه فأعانه ذلك على النجاح، وكان غنياً ولو أفلس. 

والرزق مقسوم:[وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ] {الذاريات:23}. 

رزق الإنسان مقسوم وهو جنين في بطن أمه كما جاء في حديث ابن مسعود قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق:(إنَّ أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك،، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقيٌّ أو سعيد) رواه البخاري ومسلم.

يكتب رزقه في هذه المرحلة المبكرة من الخلق، ثم يستوفيه لا يفوته منه مثقال ذرة حتى تنتهي حياته. كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (إنَّ روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب) رواه الحاكم وغيره.

والواقع المشاهد ينبئ أن الذكاء، وحسن العلاقات الاجتماعية، وحلاوة الحديث، وعلو النسب، وسعة العلم. أن كل ذلك لا علاقة له بالرزق فكم من بليد غبي انطوائي جاهل وصنيع النسب حاز من الأموال الشيء الكثير.

ولا يعني تقرير هذه الحقيقة أن يقعد الإنسان عن طلب الرزق، فالرزق المقسوم يأتي عن طريق الطلب والأخذ بالأسباب.

والإيمان بهذه الحقيقة أن الرزق مقسوم بجعل المسلم مجملاً في طلبه منظماً لوقته محيط كرامته، ويرضى بما قسم الله له.

الإنسان شديد الطمع والحرص على الدنيا: (لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى ثالثاً، ولا يملأ عيني ابن آدم إلا التراب).

الحرص والطمع والشراهة والجشع... لا تكتفي بقليل، ولا تشبع من كثير، لا يشبعها الحلال فيسيل لعابها إلى الحرام، إنها كجهنم  تلتهم الملايين ثم تقول: هل من مزيد...

إننا في هذا العصر مغرورون بحضارة الغرب، وهي حضارة تتجاهل الإيمان بالآخرة وتبني تصورها ونظرتها على استعباد الآخرة وكل ما يتصل بعالم الغيب.

ولنتأمل قوله صلى الله عليه وسلم: (فرق عليه أمره).

مطالب الدنيا وشهواتها كثيرة، ومصائبها متنوعة، فالذي لا يقصد إلا الدنيا تراه مستغرقاً بين السعي وراء المطالب والشهوات، جزعاً بسبب المصائب التي لا يخلو منها مخلوق... والشهوات كثيرة... شهوة النساء وهي فتنة كبيرة: (ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء).. وفتنة المال: (إن لكل أمة فتنة وفتنة هذه الأمة المال )... وفتنة الأولاد.. وهم من زينة الدنيا...

[زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالبَنِينَ وَالقَنَاطِيرِ المُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ وَالخَيْلِ المُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ المَآَبِ] {آل عمران:14}. 

ومن هذه الشهوات: شهوة المنصب والجاه، والإيمان بالآخرة يكبح الشهوات ويضمن القصد والاعتدال.

فمن كان قصده الدنيا كان في معاناته للهموم مستغرقاً متحيراً متردداً، فهو في عذاب لتبلبله وقلقه واضطراب نفسه.

وكذلك فالإنسان معرَّض في الدنيا إلى البلوى... فإذا أصيب ـ من لا قصد له إلا الدنيا ـ إذا أصيب في ماله أو نفسه أو عزيز عليه لم يجد ما يعزيه عن مصابه...

فيزداد شتاتاً وتفرقاً.. وأما من كان همه الآخرة فإن المصيبة تتحول لديه إلى نعمة إن هو صبر: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابه سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له).

(فرق الله عليه أمره) أمره مفرَّق، واهتمامه موزع، وفكره مشتت..

في قلق دائم، وغم مسيطر، واضطراب قاتل، وما أروع هذا المثل الذي ضربه الله تعالى:[ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ] {الزُّمر:29}.

هذه أولى النقمات التي تحيق بمن كانت الدنيا أكبر همه، ومبلغ علمه، ومع هذا السعي المتعدد والاهتمام المتوزع فإن فقره بين عينيه.

إنه لا يبصر إلا الفقر، ولا يواجه إلا الفقر، يخزن الأموال ويكنزها ويخشى الفقر، يدير أعماله التجارية والصناعية ويتوقع الفقر...

ومن ينفقِ الساعاتِ في جمعِ مالهِ مخافة فَقْرٍ فالذي فَعَلَ الفقر

أما الذي تكون نيته الآخرة، فهو العاقل حقاً، لأن الآخرة هي دار القرار.

إنك ـ يا ابن آدم ـ مهما بقيت في هذه الدنيا، فأنت متحوِّل عنها وصائر إلى دار شقاء أو دار نعيم:[كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الغُرُورِ] {آل عمران:185}. [وَمَا هَذِهِ الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآَخِرَةَ لَهِيَ الحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ] {العنكبوت:64}.

إن الذي يريد الآخرة إنسان سعيد مطمئن، هادئ البال، جمع الله له أمره، ليس في قلبه غل ولا حسد، ولا حقد، ولا يحزن على شيء فاته، يزن الأمور بميزان الشرع... ويعترف بنعم الله ويشكره عليها، ويرضى بما أصابه، ويعلم أن الآخرة خير وأبقى... (جمع الله أمره).

وينعم بأمر آخر وذلك: (أن غناه في قلبه) وهذا هو الغنى الحقيقي: (ليس الغنى عن كثرة العَرَض ولكن الغنى غنى النفس ) متفق عليه.

هناك أناس يملكون الملايين وهم فقراء، فقراء في نظرتهم إلى المال وإنفاقه.

عرض أحد الأغنياء على زاهد جبَّة، فأبى أن يقبلها، فقال له: إن كنت غنياً أخذتها منك، ففرح ذاك الغني، فسأله الزاهد: كم عندك من المال؟ فقال: خمسون ألفاً، فقال له: ألا تريد أن يكون مالك مائة ألف؟ فقال: إي والله. فقال: لا آخذها منك... إنك فقير...

التوازن بين الدنيا والآخرة:

الدنيا مزرعة الآخرة، فلا يجوز للإنسان أن ينصرف إلى الحياة الدنيا وتستغرقه مشكلاتها وترهاتها، كما لا يجوز له أن يعرض عنها إعراضاً تاماً يوقعه في الفاقة والعوز وحاجة الناس، وهذا التوازن جلي في الآية الكريمة: [وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ] {القصص:77}.

لا تنسى نصيبك من الدنيا بحيث يبلغك مقصودك إلى رضوان الله و النجاة في الآخرة.

الإسلام دين ودنيا... يرعى روح المرء وجسمه في توازن دقيق.

والحياة الدنيا مقدمة إلى حياة أعظم وأهم:[وَمَا هَذِهِ الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآَخِرَةَ لَهِيَ الحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ] {العنكبوت:64}. [بَلْ تُؤْثِرُونَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا] {الأعلى:16}.[وَلَلْآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى] {الضُّحى:4} .

السعادة ليست في المال الوفير ولا المنصب الكبير... ولكن السعادة في الرضى بما قسم الله... والقناعة بما وهب أما إذا تجرد الناس عن الرضا والقناعة والإيمان.. استوى الإنسان مع الحيوان الأعجم.. مع القطيع الذين يتسابقون إلى المرعى ولا يفهمون معنى الحب والإيثار...

نشرت 2010 وأعيد نشرها وتنسيقها 11/10/2020

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين