كُتِبت في 15 ربيع الأول 1388= 13/6/1968، في الرياض
روى مسلم في صحيحه [164:14] في كتاب السلام، في باب جواز إرداف المرأة الأجنبية إذا أعيت في الطريق:
عن عُروة بن الزبير عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، قالت: تزوجني الزُّبَير وما له في الأرض من مالٍ ولا مملوكٍ ولا شيءٍ غيرَ فرسِه، قالت: فكنت أعلف فرسه، وأكفيه مؤونته، وأسوسُه، وأدقُّ النوى لناضحه، وأعلفه، وأستقي الماء، وأخرُزُ غَرْبه، وأعجِنُ، ولم أكن أُحسن أخبز، وكان يخبز لي جارات من الأنصار، وكنَّ نسوة صِدق.
قالت: وكنت أنقل النَّوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسي، وهي على ثُلُثي فرسخ - أي على بُعْدِ ساعة بمشي القدم من منزلهم - قالت: فجئت يوماً والنوى على رأسي، فلقيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نفر من أصحابه، فدعاني – أي إلى ركوب الجمل خلفه - ثم قال – أي للجمل: إِخْ إِخْ. ليحملني خلفه، فاستحييتُ وعرفتُ غيرتك. فقال الزبير: والله لَـحَمْلُكِ النوى على رأسك أشد من ركوبك معه. قالت: حتى أرسل إليَّ أبو بكر بعد ذلك بخادم فكفتني سياسة الفرس، فكأنما أعتقني.
ثم روى مسلم أيضاً عن ابن أبي مُلَيْكَة أن أسماء قالت: كنت أخدم الزبير خدمة البيت، وكان له فرس وكنت أسوسه فلم يكن من الخدمة شيء أشدُّ عليَّ من سياسة الفرس، كنتُ أحتشُّ له، وأقومُ عليه، وأسوسه. قال: ثم إنها أصابت خادما، جاء النبيَّ صلى الله عليه وسلم سبيٌ فأعطاها خادما، قالت: كفتني سياسة الفرس، فألْقَتْ عني مَؤُونتَه.
فجاءني رجل فقال: يا أم عبد الله، إني رجل فقير أردتُ أن أبيعَ في ظل دارك. قالت: إني إن رخَّصتُ لك أبَى ذلك الزبير، فتعال فاطلُبْ إليَّ والزبير شاهد. فجاء فقال: يا أم عبد الله، إني رجل فقير أردتُ أن أبيع في ظل دارك. فقالت: ما لك بالمدينة إلا داري؟ فقال لها الزبير: ما لكِ أن تمنعي رجلا فقيرا يبيع؟ فكان يبيع إلى أن كسَبَ، فبِعْتُهُ الجارية، فدخل عليَّ الزبير وثمنها في حِجري، فقال: هَبِيها لي. قالت: إني قد تصدَّقت بها.
فأسماء رضي الله عنها من عاقلات النساء، تميزت بالكياسة في التأتي للأمور، والصبر على فقرِ الزوج، وعلى خدمته في شؤونه، وعلى خشونة العيش، والقيام بمشاق الأعمال تبرعاً.
قال النووي في شرح صحيح مسلم في شرح الحديث الأول:
قوله عن أسماء إنها كانت تعلف فرس زوجها الزبير، وتكفيه مؤونته، وتسوسه، وتدق النوى لناضحه، وتعلفه، وتستقي الماء، وتعجن.
هذا كله من المعروف والمروءات التي أطبق الناس عليها، وهو أن المرأة تخدم زوجها بهذه الأمور المذكورة ونحوها من الخَبْزِ والطبخ وغسل الثياب وغير ذلك، وكلُّه تبرع من المرأة وإحسان منها إلى زوجها، وحُسنُ معاشرة وفعل معروف معه، ولا يجب عليها شيء من ذلك، بل لو امتنعت من جميع هذا لم تأثم، ويلزمه هو تحصيل هذه الأمور لها، ولا يحل له إلزامها بشيء من هذا، وإنما تفعله المرأة تبرعا، وهي عادة جميلة استمر عليها النساء من الزمن الأول إلى الآن، وإنما الواجب على المرأة شيئان: تمكينها زوجها من نفسها، وملازمة بيته.
ثم قال النووي: وفي هذا الحديث جواز الإرداف على الدابة إذا كانت مطيقة.
وفيه: ما كان عليه الرسول من الشفقة على المؤمنين والمؤمنات ورحمتهم ومواساتهم فيما أمكنه.
وفيه: جواز إرداف المرأة التي ليست محرما إذا وُجِدتْ في طريق قد أَعيَتْ، لا سيما مع جماعةِ رجال صالحين، ولا شك في جواز مثل هذا. وقال القاضي عياض: هذا خاص للنبي صلى الله عليه وسلم، بخلاف غيره، فقد أُمِرنا بالمباعدة من أنفاس الرجال والنساء، وكانت عادته صلى الله عليه وسلم مباعدتهن لتقتدي به أمته. قال: وإنما كانت هذه خصوصية له لكونها بنت أبي بكر، وأخت عائشة، وامرأة الزبير، فكانت كإحدى أهله ونسائه، مع ما خُصَّ به صلى الله عليه وسلم أنه أملَكُ لإربه. وأما إرداف المحارم فجائز بلا خلاف بكل حال.
ثم قال النووي: قولها: أرسل إليَّ بخادم. أي جارية تخدمني، يقال للذكر والأنثى: خادمٌ. بلا هاء.
وقولها في الفقير الذي استأذنها في أن يبيع في ظل دارها، وذكرت الحيلة في استرضاء الزبير. هذا فيه حسن الملاطفة في تحصيل المصالح، ومداراة أخلاق الناس في تتميم ذلك.
من كتاب:" أيها المستمع الكريم" إعداد ومراجعة: محمد زاهد أبو غدة
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول