من شغلته أخراه كفاه الله هموم دنياه

مَنْ شَغَلَتْهُ أُخْرَاه كَفَاْهُ اللهُ هُمُوْمَ دُنْيَاه

محمد محمد الأسطل

 

مَن جَعلَ الهمومَ هَمًا وَاحِدًا هَمَّ المعاد، وَقَضى عمره خادمًا لدينه نافعًا للعباد، أَيامُهُ بينَ عِبَادةٍ وَجِهادٍ، وَرِسَالةٍ وَإعدادٍ، تَكَفَّلَهُ الله بِرِزقٍ ما لهُ من نَفَاد، وَكَفاه همَّهُ والأولاد، ورَزَقَهُ السعادة والرشاد، أما من كَانت الدُّنيا همَّهُ فقد تشعبت به الهموم والأحقاد، ولم يَأْتِهِ مِنهَا إلا ما قُدِّرَ له بِلا بَركةٍ ولا ازدياد، وكان عندَ اللهِ هَالكًا مَذمومًا يَومَ التَّنَاد !

على عتبات المسير

تأملت حال الإنسان، فوجدته مشغولًا برزقه، مع أن الله تكفل له به، بل الرزق يلاحق صاحبه كما يطلبه موته، إلا أن الشيطان أنساه وعد ربه، وَدَبَّرَ له ألف حيلة وحيلة؛ لِنَيلِ أَمرٍ مقطوعٍ به، فثبت لديَّ أن أكثر الخلق يعلنون حربًا ضد أنفسهم، ويخططون دومًا لشقاء ذواتهم، فكانت هذه الكلمات تذكيرًا بِسُنَّةِ الله عزَّ وجلّ؛ علَّ الله سبحانه أن يؤوي بها أُنَاسًا ضَلُّوا، فَيَجِدُوا السعادة التي فقدوا، إنَّ ربي على كل شيءٍ قدير !

لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ:

قال تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى، وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132،131]

نزل بالنبي صلى الله عليه وسلم أضيافٌ ولم يكن عنده ما يُطعِمُهُم، فَأرسَلَ أبا رافع إلى يهودي ليستَلِفَ دقيقًا، فأبى إلا بِرَهْنٍ، فلما عَلِمَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بِمَقالته اشتدَّت عليهِ، فَنَزَلَ جبريلُ بِهَذهِ الآيات ليُقِرَّ بها قلبه وَعَينيه [السيوطي / أسباب النزول في حاشية تفسير الجلالين ص (271)].

والرِّسالةُ مفادها: يا مُحَمَّد: لا تُطِل نظرك ميلًا لِمَا متعنا به الكفار من المناصب والمال، والمناكح والجمال، بل اجعلها في زنزانة الإهمال، فإنها لهم فتنة، وعليهم وَبَال، وإنَّ ما أنت فيه من رزقٍ خيرٌ مما هُم فِيهِ، ولكن اشتغل بِرِسَالةِ رَبِّك، يكفيك دنياك ورزقك، فمن كان في عملنا كُنَّا في عمله، وإذا فَعَلت ما نُرِيد، أعطيناك من الرزقِ ما تُريد ونزيد. [تفسير ابن كثير (5/328)]

فَقِهَ الرسالة جيدًا الحسنُ البصري فراح يقول:

لولا حُمقِ الناس لعَمُرَتِ الآخرة وخربت الدنيا، فإن الله أمرنا بِالدِّين وتكفل لنا بالرزق، وكأني به يطوف بِخَياله يتذكر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فقال: رحِم الله أقوامًا كانتِ الدّنيا عندَهم وديعة، فأدَّوها إلى مَن ائتمنهم عليها، ثمّ راحوا خفافًا !

وطائفة أهمتهم أنفسهم:

قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى: 20]؛ إنَّ ثلة مغبونة محرومة مخذولة لا تبتغي إلا دنياها، ولو فاتتها أخراها، وإنَّ أسمى أمانيها إشباع بطونها وشهواتها، والتحصل على رغائبها، وقد يعطيها ربها ما أرادت استدراجًا لها، ومكرًا بها، {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 182] !

فنحن أمام أنموذج همه نفسه، وشهوته وبطنه، لا يعبأ أن تنتصر دعوة ربه، كذاك المنافق الذي لما رأى تنافس الصحابة على البيعة تحت الشجرة؛ انفلت يبحث عن جملٍ له أحمر، وقال: لحُصولي على جملي هذا أحبُّ إليَّ من بيْعتِكُمْ ! فَوَرَدَ النَّصُّ النبويُّ يُصَرِّح: " كُلُّكُمْ مَغْفُورٌ لَهُ إِلَّا صَاحِبَ الْجَمَلِ الْأَحْمَرِ " !

فَحَزِنَ الصحابةُ لهذه الهِمَّةِ الدنية؛ فذهبوا إليه وقالوا له: " تَعَالَ يَسْتَغْفِرْ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: وَاللَّهِ لَأَنْ أَجِدَ ضَالَّتِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِي صَاحِبُكُمْ "! [صحيح مسلم، رقم الحديث: (7215)، (8/123)].

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين