من سياسة المال في الإسلام

 

روى البخاري ومسلم عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حَجَّة الوداع من وجع أشفيت منه على الموت، فقلت يا رسول الله بلغ بي من الوجع ما ترى، وأنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا. قال قلت: أفأتصدق بشطره؟ قال: لا، قلت: الثلث؟ قال: فالثلث يا سعد والثلث كثير، إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، وإنك مهما أنفقت من نفقة فإنها صدقة حتى اللقمة ترفعها إلى في امرأتك.

الألفاظ:

عادني: زارني

أشفيت منه على الموت: قاربته وأشرفت عليه.

تذر: تترك

عالة: العالة الفقراء

يتكفَّفون: يسألون الناس في أكفهم.

في امرأتك: فم امرأتك

المعنى:

إنَّ راوي الحديث هو سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وهو أحد العشرة الذين بشَّرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنَّة وتوفي وهو عنهم راضٍ، وهو أحد الستة أصحاب الشورى الذين جعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر الخلافة إليهم، أسلم قديماً وهو ابن سبع عشرة سنة، وهو أول من رمى بسهم في سبيل الله وأول من أراق دماً في سبيل الله، وهو من المهاجرين الأولين، هاجر إلى المدينة قبل قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها، وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدراً، وأحداً والخندق، و سائر المشاهد كلها، وكان يقال له: فارس الإسلام، ولما قُتل عثمان رضي الله عنه اعتزل سعد الفتن، فلم يقاتل في شيء من تلك الحروب.

توفي سنة خمس وخمسين وقيل سنة ثمان وخمسين من الهجرة، ولما حضرته الوفاة دعا بجبَّة بالية له من الصوف فقال: كَفِّنوني فيها فإني كنتُ لقيت المشركين فيها يوم بدر وهي عليَّ وإنما كنت أخبِّؤها لهذا.

اشتدَّ المرضُ بسعد حتى شارف الموت وذلك حين كان مع الرسول صلى الله عليه وسلم في حجَّة الوداع فزاره الرسول صلى الله عليه وسلم فأراد أن يتصرَّف في ماله حين اشتدَّ به المرض وكان ذا مال وغنى وكانت له ابنة واحدة، فرسم له الرسول صلى الله عليه وسلم الطريق السديد للتصرف.. 

فقد عزم سعدٌ رضي الله عنه أن يتصدَّق ويوصي بثلثي ماله فمنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانتقلَ سعدٌ إلى النصف، فلم يوافق الرسول صلى الله عليه وسلم، فانتقل سعد رضي الله عنه إلى الثلث، فوافق صلوات الله عليه على الثلث وصرَّح بأنَّ الثلث كثير، فالأولى أن ينقص عنه ولا يزيد عليه، فإنَّ الثلث كثير غير قليل، ثم وضع له قاعدة اجتماعيَّة اقتصاديَّة وهي: أنَّه لو ترك ذريته أغنياء في غنى عن الناس لكان ذلك أفضل من  أن يتركهم فقراء في حاجة تدفعهم إلى أن يتكفَّفوا الناس، فإنَّ في السؤال مذلَّة ومهانة، وإنَّ الفقر يدعو إلى رذائل سببها الحاجة وشدة العوز؛ لأنَّ الإسلام إنَّما يسير في سياسة المال على هدى مصلحة الفرد وتحقيق مصلحة الجماعة، فقرَّر في تشريعاته الماليَّة التكافل بين الفرد وذاته، وبين الفرد وأسرته القريبة، وبين الفرد والجماعة. 

أما التكافل بين الفرد وذاته فهو يتمثَّل في تكليف الفرد أن ينهي نفسه عن شهواتها وأن يزكيها ويطهرها وأن يسلك بها طريق الصلاح والنجاة، وألا يُلقي بها إلى التهلكة.

 [فَأَمَّا مَنْ طَغَى(37) وَآَثَرَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا(38) فَإِنَّ الجَحِيمَ هِيَ المَأْوَى(39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى(40) فَإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأْوَى]. {النَّازعات}..

وهو مُكلَّفٌ في الوقت ذاته أن يمتِّع نفسه في الحدود التي لا تفسد فطرتها، وأن يمنحها حقَّها من العمل والراحة والأخذ من كل متعة حلال في غير ما إسراف ولا تبذير.

وهناك تكافل بين الفرد وأسرته القريبة وهو الذي أشار إليه الحديث وسَنَّ قاعدته من أنَّ الوصية لا تكون إلا في الثلث، وفي حديث آخر هي لغير الوارث، ثم حثَّ على نصيب الورثة من الميراث، وقيمة هذا التكافل في محيط الأسرة أنَّه قوامها الذي يملكها، والأسرة هي اللبنة الأولى في بناء المجتمع، ولا مفرَّ من الاعتراف بقيمتها والمحافظة على أسباب عواطف الرحمة والمودَّة ومُقتضيات الضرورة والمصلحة حتى تظلَّ مرفوعة الرأس عزيزة الجانب سليمة الكيان.

والوصية التي سلَّم بها الحديث ورضي عنها في الثلث لغير وارث إنَّما شرعت لتدارك بعض الحالات التي لا يرث فيها من توجب الصلة العائلية أن يصله المورث ويبرَّه، ولتكون مجالاً لإنفاق شيء من التركة في وجوه البر والخير قال الله تعالى: [وَإِذَا حَضَرَ القِسْمَةَ أُولُو القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا] {النساء:8}.

أما ما جاء في الحديث بعد ذلك من قوله: (وإنك مهما أنفقت من نفقة فهي صدقة) فإنَّما هو علة للنهي عن الوصية بأكثر من الثلث، كأنَّه قيل لا تفعل لأنك إن مت تركت ورثتك أغنياء، وإن عشت تصدَّقت وأنفقت، فالأجر حاصل لك في الحالين، وفي ذلك تسلية لسعد رضي الله عنه حيث أشعر سؤاله على شدة رغبته في الخير وتكثير الأجر.

وأما قوله في الحديث: (حتى اللقمة ترفعها إلى في امرأتك) ففيه حثٌّ على حُسن معاملة الزوجة وملاطفتها فإنَّ له في ذلك أجراً وثواباً.

قال النَّووي: في هذا الحديث أنَّ المباح إذا قصد به وجه الله تعالى صار طاعة ويثاب عليه، وقد نبَّه صلى الله عليه وسلم على هذا بقوله: (حتى اللقمة ترفعها إلى في امرأتك) لأنَّ زوجة الإنسان هي من أخصِّ حظوظه الدنيويَّة ومَلاذه المباحة، وإذا وضع اللقمة في فمها فإنما يكون ذلك في العادة عند الملاعبة والملاطفة فهذه الحالة أبعد الأشياء عن الطاعة وأمور الآخرة، ومع هذا فأخبر صلى الله عليه وسلم أنَّه إذا قصد بهذه اللقمة وجه الله تعالى حصل له الأجر بذلك، ويتضمَّن ذلك مبدأ وَاسعاً من الرحمة وفضل الله العميم، وهو أنَّ الإنسان إذا فعل شيئاً أصله على الإباحة وقصد به وجهَ الله تعالى يُثاب عليه، وذلك كالأكل بنية التقوِّي على طاعة الله تعالى، وكالنوم للاستراحة ليقوم إلى العبادة نشيطاً، والاستمتاع بزوجته ليكفَّ نفسه وبصره عن الحرام، وليقضي حقَّها وليحصل ولداً صالحاً، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (وفي بضع أحدكم صدقة).

فقه الحديث:

في هذا الحديث فوائد منها:

1 – أنَّ زيارة المريض من السنَّة؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أتى إلى زيارة هذا المريض.

2 – جواز زيارة الأعلى للأدنى وهي من صفات الإيمان؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لا شكَّ أنَّه أفضل الناس ثم إنَّه أتى في عيادة سعد رضي الله عنه.

3 – أنَّ الإمام يتفقَّد أصحابه ويسأل عمَّن غاب عنهم فمن كان منهم له عذر أخذه معه فيه بقدر ما يمكنه لحقِّ أخوَّة الإسلام ولحقِّ الصحبة أيضاً؛ لأنَّه عليه الصلاة والسلام لولا أنه كان يسأل عن أصحابه ويتفقَّدهم لما عرف مرض هذا الصحابي حتى يزوره.

4 – أنَّ ترك المال للورثة إذا كانت لهم به حاجة أفضل من الصدقة به على الأجانب.

5 – فيه إباحة جمع المال بشرط، لأن التنوين في قوله (وأنا ذو مال) يفيد الكثرة، وقد جاء في رواية أخرى: (وأنا ذو مال كثير).

6 – قال ابن أبي جمرة الأندلسي: إنَّه لا يقتصر بهذا الحديث على نفقة المال لا غير، بل هو عام في كل الحركات والسكنات؛ لأنَّ كل ما يفعله المرء من تحرُّك وكلام فهو نفقة ونصُّ الحديث عام في كل ذلك؛ لأنَّه قال: (مهما أنفقت من نفقة) وهذا اللفظ يفيد العموم في كل النفقات، وهذا العموم كعموم قوله تعالى: [لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ] {آل عمران:92}. 

ويشهد لذلك أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم جعل في حديث آخر لقاء المؤمن لأخيه ببشاشة الوجه صدقة، وإماطة الأذى عن الطريق صدقة، إلى غير ذلك مما جاء في هذا المعنى. 

فقد استوى الإنفاق من المال وغير المال، لكن في هذه النفقات تفصيل، ولأجل التحقق بهذه المعاني فضل أهل التصوف غيرهم لكونهم احتسبوا أنفسهم وأموالهم وأهليهم لله لا لغيره، تعلقاً منهم بهذا الحديث، إذ أن كل ما ينفقه المرء فهو صدقة فأنفقوا جميع ما لديهم من كلام أو صمت أو نوم أو غير ذلك، فكانوا لا يتنفَّسون بنفس إلا بحضور وأدب، ينظرون ما عليهم من الوظيفة وما هو الأقرب إلى الله تعالى فيبادرون إليه بإسراع وإجابة لقوله تعالى: [أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ] {الإسراء:57}.

 

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: (مجلة لواء الإسلام، العدد 2 ، السنة 12 -1377هـ، 1958م).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين