مختارات من تفسير (من روائع البيان في سور القرآن) (الحلقة 220)

القسم الثاني الأخير

﴿وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِ‍ۧمُ رَبِّ أَرِنِي كَيۡفَ تُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰۖ قَالَ أَوَ لَمۡ تُؤۡمِنۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطۡمَئِنَّ قَلۡبِيۖ قَالَ فَخُذۡ أَرۡبَعَةٗ مِّنَ ٱلطَّيۡرِ فَصُرۡهُنَّ إِلَيۡكَ ثُمَّ ٱجۡعَلۡ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٖ مِّنۡهُنَّ جُزۡءٗا ثُمَّ ٱدۡعُهُنَّ يَأۡتِينَكَ سَعۡيٗاۚ وَٱعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞ٢٦٠﴾ [البقرة: 260]

السؤال الخامس:

 

 ما اللمسة البيانية في كلمة ﴿ وَلَٰكِن لِّيَطۡمَئِنَّ قَلۡبِيۖ على لسان إبراهيم عليه السلام في هذه الآية؟ وكذلك في آية البقرة 259 في قصة العزير؟

الجواب:

الكلام على لسان إبراهيم عليه السلام، وينبغي أنْ نتذكر أنّ إبراهيم عليه السلام في هذا الطلب كان يخاطب الله سبحانه وتعالى، وكان الله تعالى يخاطبه وليس وراء مخاطبة الله عز وجل إيمان، بمعنى أنه عندما يكلّم الله عز وجل ويسمعه ويسمع كلام الله تعالى فهل يحتاج إلى إيمان فوق هذا؟ هل يحتاج إلى دليل؟ هو يناجي ربه وربه يخاطبه، إذن المسألة ليست مسألة إيمان أو ضعف إيمان أو محاولة تثبيت إيمان؛ لأنّ مخاطبة الله عز وجل هي أعلى ما يمكن أن يكون من أسباب الإيمان، والأنبياء يطلبون كمالات اليقين ،  بينما الذين في قلوبهم مرض يحرضون من أجل الشك.

  إبراهيم عليه السلام هو الأوّاه الحليم، وهو كليم الله عز وجل، والقضية معه ليست قضية إيمان .

كان يمكن في غير القرآن أن يقال: (أرني كيف تحيي الموتى ليطمئن قلبي) فلماذا دخلت ﴿ قَالَ أَوَ لَمۡ تُؤۡمِنۖ قَالَ بَلَىٰ ؟ الله سبحانه وتعالى يعلم أنه مؤمن؛ لأنه يكلّمه فكيف لا يؤمن.

والتساؤل عادة يكون لتقرير أمر، كما قال الله عز وجل في سورة المنافقون: ﴿ إِذَا جَآءَكَ ٱلۡمُنَٰفِقُونَ قَالُواْ نَشۡهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُۥ وَٱللَّهُ يَشۡهَدُ إِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ لَكَٰذِبُونَ١ [المنافقون:1] كان يمكن في غير القرآن أن يقول: (قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يشهد أنّ المنافقين لكاذبون)، وإنما وضع بين هذه وهذه ﴿ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُۥ [المنافقون:1] لدفع ما قد يتوهمه إنسان، فجاءت في مكانها وهي جملة إيضاح وتثبيت معنى.

وهنا قال: ﴿  أَوَ لَمۡ تُؤۡمِنۖ قَالَ بَلَىٰ هذا للسامعين؛ لأنّ السامع عندما يسمع إبراهيم عليه السلام يقول: أرني كيف تحيي الموتى سيسأل: ألم يكن إبراهيم كامل الإيمان؟ فحكى لنا وذكر ﴿ أَوَ لَمۡ تُؤۡمِنۖ قَالَ بَلَىٰ إذن أثبت الإيمان لإبراهيم عليه السلام حتى لا يخطر في قلوبنا أنّ إبراهيم عليه السلام طلب هذا الأمر ليثبت إيمانه وهو مؤمن.

إذن ما موضع الاطمئنان هنا؟ علماؤنا يقولون إنّ إبراهيم عليه السلام وهو كليم الله عز وجل والأوّاه الحليم كان في قلبه شيء يريد أنْ يراه ويلمسه، أنْ يرى سر الصنعة الإلهية، أنْ يرى هذه الصناعة كيف تكون؟

 والقلب نقول عنه إنه غير مطمئن إذا كان يشغله شيء، ولفظة ﴿ أَرِنِي تعني أريد أنْ أرى رؤية العين؛ لأنّ إحياء الموتى لا يُرى، فهو كان يتطلع إلى أنْ يرى هذا الشيء، والله تعالى لم يجبه: لِماذا تريد أن ترى؟ هؤلاء الأنبياء مقرّبون إلى الله سبحانه وتعالى هو يختارهم فلا يفجؤهم بردٍّ يضربهم على أفواههم .

ولذلك قيل له: خذ أربعة من الطير، و يبدو أنّ الجبال التي كانت حوله أربعة، والجبل هو كل مرتفع صخري عن الأرض وإنْ كان قليلاً.

وقوله تعالى: ﴿ فَصُرۡهُنَّ إِلَيۡكَ أي: احملهن إليك واضمُمهن إليك حتى تتعرف إليهن وترى أشكالهن، وهي أيضاً تشم رائحتك وتتعرف من أنت، وما قال القرآن: قطّعهن؛ لأنّ هذا معلوم من كلمة ﴿ ثُمَّ ٱجۡعَلۡ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٖ مِّنۡهُنَّ جُزۡءٗا .

 إذن أربعة طيور ذُبِحن وقُطِّعن وجُمِّعن وقُسِّمن أربعةَ أقسامٍ، ووضع إبراهيم عليه السلام كل قسم على كل جبل فاجتمعت جميعاً بمجرَّد أنْ ناداها وجاءت إليه مسرعات ﴿ يَأۡتِينَكَ سَعۡيٗاۚ .

هذا ليس مجرد إخراج ميت إلى الحياة، وإنما بهذا التقسيم إبراهيم عليه السلام كان يريد أنْ يرى هذا الشيء- ليس شكّاً- فيرى يد الله عز وجل كيف تعمل، شيءٌ أحبّ أنْ يراه ولا علاقة له بقوة الإيمان؛ لأنّ إيمانه لا شك فيه وأثبته لنا القرآن الكريم .

في موقف شبيه قصة العزير: ﴿ أَوۡ كَٱلَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرۡيَةٖ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحۡيِۦ هَٰذِهِ ٱللَّهُ بَعۡدَ مَوۡتِهَاۖ فَأَمَاتَهُ ٱللَّهُ مِاْئَةَ عَامٖ ثُمَّ بَعَثَهُۥۖ قَالَ كَمۡ لَبِثۡتَۖ قَالَ لَبِثۡتُ يَوۡمًا أَوۡ بَعۡضَ يَوۡمٖۖ قَالَ بَل لَّبِثۡتَ مِاْئَةَ عَامٖ فَٱنظُرۡ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمۡ يَتَسَنَّهۡۖ وَٱنظُرۡ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجۡعَلَكَ ءَايَةٗ لِّلنَّاسِۖ وَٱنظُرۡ إِلَى ٱلۡعِظَامِ كَيۡفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكۡسُوهَا لَحۡمٗاۚ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُۥ قَالَ أَعۡلَمُ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ٢٥٩ [البقرة:259] أراه مثالاً في نفسه هو، مسألة إحياء الموتى كانت تداعب أذهان وفكر الكثيرين من باب الاطلاع على الشيء ولمعرفته وليس للشك؛ لأنه كان هناك يقين بأنّ الله تعالى يحيي الموتى وهذا هو الإيمان.

9 ـ في آية البقرة 260 إيجاز بالحذف، إذ حكى الله سبحانه أوامره ، ولم يتعرض لامتثال إبراهيم عليه السلام لها ، لأنّ ذلك مدرك بالبداهة . والله أعلم .

السؤال السادس:

قوله تعالى في هذه الآية: ﴿ قَالَ فَخُذۡ أَرۡبَعَةٗ مِّنَ ٱلطَّيۡرِ ما دلالة ﴿ مِّنَ في قوله ﴿ مِّنَ ٱلطَّيۡرِ وهل تفيد معنى زائداً فيما لو قال: فخذ أربعة طيور؟

الجواب:

جيء بـ ﴿ مِّنَ في الآية لتدل على التبعيض، وهذا ما يضيف معنى آخر وهو التعدد والاختلاف، خلافاً لقولنا: أربعة طيور، فهذه العبارة لا تدل على تعدد أنواعها، فقد تكون الطيور من صنف واحد، وقد دخلت ﴿ مِّنَ على هذه الآية لتدلنا على التعدد والاختلاف، حتى لا يتوهم مشكك بأنّ بعض الأنواع أهون بالإحياء والبعث من بعض.

السؤال السابع:

في قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ ٱدۡعُهُنَّ يَأۡتِينَكَ سَعۡيٗاۚ لِمَ خصّ ربنا تعالى إجابة الطيور بالسعي لا بالطيران، مع أنّ هذا مخالف لطبيعة الطير؟

الجواب:

جعل الله سبحانه وتعالى هذا السعي دليلاً وآية على عودة الحياة بعد موت، والحياة التي رُدّت إليهن مخالفة لحياتهن السابقة، ولذلك عجزن عن الطيران؛ لأنه غير معهود بهذه الحياة الجديدة. وفي قصة الطير مع إبراهيم عليه السلام، قال الله له: ﴿ ثُمَّ ٱدۡعُهُنَّ يَأۡتِينَكَ سَعۡيٗاۚ  ولم يقل: (يطرن)، والحكمة في هذا ـ والله أعلم ـ ما ذكره البغوي: (كونه أبعد من الشبهة؛ لأنها لو طارت لتوهم متوهم أنها غير تلك الطير، وأنّ أرجلها غير سليمة).والله أعلم .

السؤال الثامن:

ما اللمسة البلاغية في قوله تعالى ﴿ سَعۡيٗاۚ ؟

الجواب:

قوله تعالى: ﴿ سَعۡيٗاۚ حال منصوب جاء على صيغة المصدر، وهو أبلغ من (ساعيات)؛ لأنه أخبر عن الذات بالحدث المجرد، كأنه ليس شيء يثقله من الذات فأصبح حدثاً مجرداً.

ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَمۡشِ فِي ٱلۡأَرۡضِ مَرَحًاۖ [الإسراء:37] حال جاء بها على وزن المصدر (مرح) وهذا يفيد المبالغة؛ لأنك إذا أتيت بالحال مصدراً فهو للمبالغة قطعاً، وعندما تقول: جاء ركضاً، أبلغ من: جاءك راكضاً.

والله أعلم .


جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين