مختارات من تفسير (من روائع البيان في سور القرآن) (الحلقة 219)

القسم الأول

﴿وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِ‍ۧمُ رَبِّ أَرِنِي كَيۡفَ تُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰۖ قَالَ أَوَ لَمۡ تُؤۡمِنۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطۡمَئِنَّ قَلۡبِيۖ قَالَ فَخُذۡ أَرۡبَعَةٗ مِّنَ ٱلطَّيۡرِ فَصُرۡهُنَّ إِلَيۡكَ ثُمَّ ٱجۡعَلۡ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٖ مِّنۡهُنَّ جُزۡءٗا ثُمَّ ٱدۡعُهُنَّ يَأۡتِينَكَ سَعۡيٗاۚ وَٱعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞ٢٦٠ [البقرة: 260]

السؤال الأول:

ما دلالة ختام الآية ﴿عَزِيزٌ حَكِيمٞ٢٦٠   بدل مثلاً : ﴿ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ٢٥٩ ؟

الجواب:

سياق الآية قد يحسم الأمر لدى المتكلم وحسب ما يريد المتكلم، فمثلاً عندما يذكر ربنا إحياء الأرض بعد موتها، لا يكون التعقيب في ختام الآيات واحداً، وإنما حسبما يريد المتكلم؛ كما في قوله تعالى: ﴿ وَءَايَةٞ لَّهُمُ ٱلۡأَرۡضُ ٱلۡمَيۡتَةُ أَحۡيَيۡنَٰهَا وَأَخۡرَجۡنَا مِنۡهَا حَبّٗا فَمِنۡهُ يَأۡكُلُونَ٣٣ [يس:33] فذكر إحياء الأرض الميتة وذكر موضوع الأكل، وفي آية أخرى قال: ﴿ وَيُحۡيِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَاۚ وَكَذَٰلِكَ تُخۡرَجُونَ١٩ [الروم:19] فاستدل بها على أمر آخر غير الأكل.

وفي حياتنا اليومية تقول: سافرت إلى مدينة من المدن، فتقول: سافرت إلى مدينة من أجمل المدن، أو تعقب على أهلها فتقول: وجدت فيها أناساً طيبين، أو تعقب على المدة التي قضيتها فيها.

التعقيب في آية البقرة رقم 258 والكلام عن إبراهيم عليه السلام مع النمرود، وهو حاكم معتدٍ ومعتزٌّ بحكمه، قال تعالى: ﴿ أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِي حَآجَّ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ فِي رَبِّهِۦٓ أَنۡ ءَاتَىٰهُ ٱللَّهُ ٱلۡمُلۡكَ إِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِ‍ۧمُ رَبِّيَ ٱلَّذِي يُحۡيِۦ وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا۠ أُحۡيِۦ وَأُمِيتُۖ قَالَ إِبۡرَٰهِ‍ۧمُ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَأۡتِي بِٱلشَّمۡسِ مِنَ ٱلۡمَشۡرِقِ فَأۡتِ بِهَا مِنَ ٱلۡمَغۡرِبِ فَبُهِتَ ٱلَّذِي كَفَرَۗ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّٰلِمِينَ٢٥٨[البقرة: 258].

آـ لمّا قال إبراهيم عليه السلام: ربي الذي يحيي ويميت، ألا يعلم أنّ الله على كل شيء قدير؟ بالطبع يعلم.

ب ـ ولمّا قال النمرود: ﴿ قَالَ أَنَا۠ أُحۡيِۦ وَأُمِيتُۖ جاء بشخصين قتل واحداً وأطلق الآخر.

ج ـ ختمت الآية بقوله تعالى: ﴿ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّٰلِمِينَ٢٥٨ وهي عامة؛ لأنّ الله أظلم قلوبهم فلم يُبْقِ لهم وجهاً ثابتاً يتمسكون به، فأين منهم الهداية وقد صاروا بعيداً عن مواطن أهل العناية .

وقصر فعل الهداية لزيادة المعنى وإفادة العموم .

التعقيب في آية البقرة رقم 259 ﴿ أَوۡ كَٱلَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرۡيَةٖ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحۡيِۦ هَٰذِهِ ٱللَّهُ بَعۡدَ مَوۡتِهَاۖ فَأَمَاتَهُ ٱللَّهُ مِاْئَةَ عَامٖ ثُمَّ بَعَثَهُۥۖ قَالَ كَمۡ لَبِثۡتَۖ قَالَ لَبِثۡتُ يَوۡمًا أَوۡ بَعۡضَ يَوۡمٖۖ قَالَ بَل لَّبِثۡتَ مِاْئَةَ عَامٖ فَٱنظُرۡ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمۡ يَتَسَنَّهۡۖ وَٱنظُرۡ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجۡعَلَكَ ءَايَةٗ لِّلنَّاسِۖ وَٱنظُرۡ إِلَى ٱلۡعِظَامِ كَيۡفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكۡسُوهَا لَحۡمٗاۚ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُۥ قَالَ أَعۡلَمُ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ٢٥٩ وانتهت الآية بقوله تعالى: ﴿ قَالَ أَعۡلَمُ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ٢٥٩ والآية واضحة على إبراز قدرة الله سبحانه فناسب المضمون الخاتمة .

آية البقرة 260:

قال المفسرون: إنّ الله تعالى إذا خرق الناموس والأسباب فلعزته ولحكمةٍ يريدها هو؛ لأنّ الذي يفعل هكذا بالنواميس هو الحاكم والقادر والعزيز، فالله تعالى لا يفعل ذلك إلا لحكمة يريدها ولعزّته هو سبحانه وتعالى، فأراد ربنا لا أنْ يبين قدرته؛ لأنّ إبراهيم يعلم قدرته، لكنه أراد أن يبين عزته وحكمته تبعاً للسياق الذي وردت فيه الآية، فناسب ذلك التعقيب بقوله تعالى: ﴿ وَٱعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞ٢٦٠ [البقرة:260] وقبلها قال: ﴿ أَعۡلَمُ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ٢٥٩ [البقرة:259] إذن هي متماشية مع السياق.

السؤال الثاني:

في هذه الآية تكررت ﴿ ثُمَّ مرتين، فهل هي تفيد التراخي في هذه الآية؟

الجواب:

﴿ ثُمَّ تفيد الترتيب والتراخي، والفاء تدل على التعقيب.

﴿ ثُمَّ تفيد معنيين:

آـ ﴿ ثُمَّ ٱجۡعَلۡ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٖ مِّنۡهُنَّ جُزۡءٗا معناه هناك أكثر من جبل، أي: هناك صعود أربعة جبال، فاستعمل ﴿ ثُمَّ حتى يجعل لإبراهيم سعة في أن يلتقط الطير ويصعد الجبال، ولو جاء بالفاء لم يجعل له سعة .

ب ـ ﴿ ثُمَّ ٱدۡعُهُنَّ هذا يدل على قدرة الله أيضاً؛ لأنه بمرور الزمن قد يفسد اللحم، وكلما كان أقرب للذبح سيكون أسرع في الحياة، لكنْ حتى يبين أنه حتى لو تأخر الوقت وفسد اللحم سيحصل الأمر، ولو استعمل الفاء لم يفد هذا المعنى .

فجاء بـ ﴿ ثُمَّ  مرتين ليجعل له متسعاً في الحركة ثم ليدل على قدرة الله، بمعنى أنه حتى لو تأخر الوقت سيحصل هذا الأمر والطيور ستأتيك مسرعة، وهذا أدل على قدرة الله، بينما لو جاء بالفاء لم يفد هذين المعنيين.

السؤال الثالث:

ما معنى ﴿ فَصُرۡهُنَّ إِلَيۡكَ في الآية ؟

الجواب:

قوله تعالى: ﴿ فَصُرۡهُنَّ  بضم الصاد ويجوز كسرها ، فعل أمر من صار يصور أو من صار يصير ، بمعنى ضمّ.

قوله تعالى: ﴿ فَصُرۡهُنَّ إِلَيۡكَ أي: احملهن إليك واضممهن إليك حتى تتعرف إليهن وترى وتحفظ أشكالهن، وهي أيضاً تشم رائحتك وتتعرف من أنت وتعرفها أنها هي نفسها بعد ذلك، وما قال القرآن: قطّعهن؛ لأنّ هذا معلوم من قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ ٱجۡعَلۡ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٖ مِّنۡهُنَّ جُزۡءٗا .

جاء في الألغاز النحوية:

 إني رأيــــت فتى قد

 

زاد قلبــــــــــي خبالا

 قد صار هراً وكلبــاً

 

وبَعدُ قدْ صـــــار غزالا


 

 ولي بذاك دليــــــلٌ

 

من قول ربي تعـــــــالى

﴿ فَصُرۡهُنَّ إِلَيۡكَ [البقرة:260] .

السؤال الرابع:

ما دلالة نون الوقاية في قوله تعالى ﴿ أَرِنِي ؟ وما وظائفها؟ وما أنواع  النون  الأخرى في اللغة ؟

الجواب:

نون الوقاية تأتي قبل ياء المتكلم بواحد من ثلاثة :

مع الفعل ، سواء كان متصرفاً أو جامداً ، نحو : ( أكرمني ـ يُكرمني ـ تكرمونني ) .

مع اسم الفعل ، نحو : ( داركني ) بمعنى : أدركني ، و ( تراكني ) بمعنى :

( اتركني ) .

مع الحرف نحو : ( إنني ـ لكنني ) ، وكذلك قبل الياء المجرورة بـ (من ـ عن) .

وعندما تلحق بالأحرف المشبهة بالفعل ، فالأكثر إثبات نون الوقاية مع ( ليت ) وحذفها مع ( لعلّ )  ، وبه ورد القرآن الكريم :

﴿ يَٰلَيۡتَنِي كُنتُ مَعَهُمۡ فَأَفُوزَ فَوۡزًا عَظِيمٗا٧٣ [ النساء : 73].

﴿  لَّعَلِّيٓ أَبۡلُغُ ٱلۡأَسۡبَٰبَ٣٦ [غافر: ٣٦].

وأمّا مع ( إنّ ـ أنّ ـ كأنّ ـ لكنّ ) فأنت فيه بالخيار ، إنْ شئت أثبت نون الوقاية ، وإنْ شئت حذفتها .

وسميت بنون الوقاية لأنها تقي الفعلَ الكسرَ . ومن أبرز وظائفها اللغوية :

آ ـ إزالة اللبس بين أمر المخاطب وأمر المخاطبة في نحو : أكرمْني وأكرمِي ـ انصرني وانصري ، فإن ( أكرمْني ) أمر للمخاطب بإكرام المتكلم و (أكرمِي ) أمر للمخاطبة ، ولولا نون الوقاية لالتبس الفعلان .

ب ـ إزالة اللبس بين أمر المخاطبة والفعل الماضي المتصل بياء المتكلم نحو :

( تداركي ) كأمر للمخاطبة ، وبين ( تداركني ) كفعل ماضٍ ، ولولا النون لالتبست هذه الصيغ .

ج ـ إزالة اللبس بين الاسم والفعل في نحو : ( حِجري ) كاسم مضاف إلى ياء المتكلم ، وبين ( حَجَرني ) أي حبسني  ، ولولا النون لالتبس الفعل بالاسم .

د ـ إزالة اللبس بين اسم الفعل وغيره من الأسماء ، في نحو : ( سماعِني ) بمعنى : اسمعني ، وبين ( سماعي ) مصدر للفعل ( سمع )  مضاف إلى ياء المتكلم .

هـ ـ إزالة اللبس بين حرف الجر والفعل ، في نحو : خلاي و خلاني ، و عداي وعداني ، فإنّ التي بالنون فعل دون أختها .

و ـ ثم هي تفيد زيادة التوكيد ، في : إنّ ، وأنّ ، ولكنّ ، وكأنّ ، نحو : إني وإنني ، وكأني وكأنني ، وقولك : ( إنني مسافر غداً ) آكد من قولك : ( إني مسافر غداً ) فتبين من ذلك أنّ لنون الوقاية وظيفة لغوية أهم من كونها تقي الفعل الكسر .

وللعلم فإنّ ( النون ) تكون في اللغة إمّا ضميراً وإمّا حرفاً :

النون (الضمير) وتسمى : نون النسوة ،  وهي تسند إلى الفعل الماضي والمضارع والأمر ، نحو: ( النساء ذهبنَ ـ يذهبنَ ـ اذهبنَ ).

أمّا النون (الحرف ) فهي على أربعة وجوه :

آ ـ نون التوكيد : وتكون خفيفة ساكنة أو ثقيلة مشددة ، نحو : اجتهدنْ ـ اكتبنّ .

ب ـ نون الوقاية : وهي ما ذُكر أعلاه .

ج ـ نون الإناث : وهي مشددة مفتوحة تتصل بالضمائر للدلالة على جمع الإناث ، نحو : كتابكنّ .

د ـ النون الزائدة : وهي تلحق بالفعل المضارع إذا أسند إلى ألف الاثنين أو واو الجماعة أو ياء المخاطبة ، وتحذف إذا سبق الفعل حرف نصب أو أداة جزم   نحو : يكتبان ـ تكتبان ـ يكتبون ـ تكتبون ـ تكتبين .

والله أعلم .

 

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين