مختارات من تفسير (من روائع البيان في سور القرآن) (الحلقة 218)

﴿أَوۡ كَٱلَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرۡيَةٖ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحۡيِۦ هَٰذِهِ ٱللَّهُ بَعۡدَ مَوۡتِهَاۖ فَأَمَاتَهُ ٱللَّهُ مِاْئَةَ عَامٖ ثُمَّ بَعَثَهُۥۖ قَالَ كَمۡ لَبِثۡتَۖ قَالَ لَبِثۡتُ يَوۡمًا أَوۡ بَعۡضَ يَوۡمٖۖ قَالَ بَل لَّبِثۡتَ مِاْئَةَ عَامٖ فَٱنظُرۡ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمۡ يَتَسَنَّهۡۖ وَٱنظُرۡ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجۡعَلَكَ ءَايَةٗ لِّلنَّاسِۖ وَٱنظُرۡ إِلَى ٱلۡعِظَامِ كَيۡفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكۡسُوهَا لَحۡمٗاۚ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُۥ قَالَ أَعۡلَمُ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ٢٥٩﴾ [البقرة: 259]

السؤال الأول:

من المار على القرية المذكورة في هذه الآية ؟ وما دلالة هذه الآية ؟

الجواب:

 1 ـ اختلف المفسرون في الشخص المقصود في هذه الآية، وجمهور العلماء على أنه (العزير)، وقيل غيره .

والأصل في تعاملنا مع القرآن أنّ ما سكت عنه ربنا سبحانه وتعالى نسكت عنه؛ لأنه لا ثمرة فيه إلا إذا ورد فيه خبر صحيح من رسول الله يكون موضحاً لجزئية معينة .

2 ـ  هذه الآية تدل على انفراد الله سبحانه بالخلق والتدبير والإحياء والإماتة ، والبعث هو الركن الخامس من أركان الإيمان ، وفي الآية ساق الله سبحانه دليلاً محسوساً مادياً  لمنكري البعث على قدرة الله سبحانه على إحياء الخلق بعد موتهم.

3 ـ في الآية دليل على نبوة الرسول عليه السلام لأنه أخبر اليهود بما في كتبهم وهو أمي .

4 ـ قوله تعالى :  ﴿فَأَمَاتَهُ ٱللَّهُ مِاْئَةَ عَامٖ ثُمَّ بَعَثَهُۥۖ  فيه تدبر هام وهو أنّ مائة عام كانت لدرس واحد، فلا تستطل طريق تعليم التوحيد.

5 ـ قوله تعالى : ﴿ لَمۡ يَتَسَنَّهۡۖ  الآسن : هو المتغير في الطعم والرائحة ، وهذا في طعام الدنيا إذا تقادم عليه الزمن ، أمّا طعام وشراب الآخرة فهو غير آسن ، وقوله تعالى : ﴿لَمۡ يَتَسَنَّهۡۖ  أي لم يتغير بمرور السنين ، و في هذا دلالة على قدرة الله تعالى على إحياء الموتى ، ومنه أيضاً قوله تعالى : ﴿ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ٢٦ [الحجر: 26]  أي متغيّر .والله أعلم .

السؤال الثاني:

ما دلالة ﴿فَأَمَاتَهُ في قوله تعالى: ﴿فَأَمَاتَهُ ٱللَّهُ مِاْئَةَ عَامٖ ثُمَّ بَعَثَهُۥۖ واستخدام الضرب على السمع للتعبير عن الموت في آية الكهف  ﴿ فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا١١ [الكهف:11]؟ وما دلالة استخدام ﴿بَعَثَهُۥۖ وليس أحياه؟

الجواب:

أهل الكهف لم يموتوا وإنما ناموا؛ لأنه تعالى قال: ﴿ وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ [الكهف:18] والراقد ليس ميتاً؛ ولذلك لا يصلح أن يقول: أماتهم.

أمّا قوله تعالى في آية البقرة 259 ﴿فَأَمَاتَهُ ٱللَّهُ مِاْئَةَ عَامٖ ثُمَّ بَعَثَهُۥۖ   :

 أـ نلاحظ أنه تعالى استعمل كلمة (يحيي) وكلمة الموت (أماته)، فلما استعمل الإحياء والموت ناسب ذلك أنْ يقول: ﴿فَأَمَاتَهُ ٱللَّهُ لأنه تكلم عن موت وحياة.

ب ـ لكنْ قد يقول قائل: لما تكلم الله عن موت وحياة قال: ﴿فَأَمَاتَهُ فلِمَ قال:         ﴿بَعَثَهُۥۖ ولم يقل: (وأحياه)؟

 والجواب أنّ قوله: ﴿فَأَمَاتَهُ مناسب للموت، ويُفترض في غير القرآن أنْ يقال: فأماته الله مئة عام ثم أحياه، أي: جعل فيه الروح، أي: جعله حياً.

أمّا بعثه: فالبعث فيه معنى الإنهاض، بعثه: يعني أن الحياة جزء منه، ولمّا قال: ﴿ثُمَّ بَعَثَهُۥۖ أي: جعله ينهض.

والفعل (بعث) له معنيان متقاربان:

ـ المعنى الأول هو أرسله: كأنه بعد تقييده، وكأنه كان عنده ثابتاً ثم أرسله، لذلك يقولون: أرسل السهم.

ـ المعنى الثاني هو النهوض: يقول بعث الناقة عندما تكون باركة، بعثها: أي أقامها وأنهضها بأنْ حلّ رباطها.

 وهذان المعنيان متقاربان: بعثه، أي: أنهضه كاملاً مبصراً عاقلاً؛ لأن (بعث) بمعنى استوى قائماً كما تستوي الناقة واقفة إذا بعثتها، وفي الآية: عندما ينهض هذا النائم الميت، معناه أنه أنهض بوعيه وبعقله حتى يحاور وحتى يقال له: كم لبثت؟ ويجيب.

ولما عُرِّفَ قدرةَ الله سبحانه وتعالى ﴿فَٱنظُرۡ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمۡ يَتَسَنَّهۡۖ وَٱنظُرۡ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجۡعَلَكَ ءَايَةٗ لِّلنَّاسِۖ وَٱنظُرۡ إِلَى ٱلۡعِظَامِ كَيۡفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكۡسُوهَا لَحۡمٗاۚ فبدأ الحمار شيئاً فشيئاً يتكوّن، عند ذلك قال: ﴿فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُۥ قَالَ أَعۡلَمُ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ٢٥٩ .

وهذه مسألة كان يعلمها، لكنها الآن أصبحت عنده يقيناً وكأنه كان متعجباً من كيفية إحيائها وهي قرية ميتة؟ فجعلها الله تعالى آية لمن بعده، ونحن من هؤلاء الذين يرون فيها آية من آيات الله .

السؤال الثالث:

 في قوله تعالى في الآية: ﴿وَلِنَجۡعَلَكَ ءَايَةٗ لِّلنَّاسِۖ  ما دلالة استخدام الواو ؟

الجواب:

لماذا حذف المعطوف عليه في قوله تعالى: ﴿وَلِنَجۡعَلَكَ ؟

عندما أحيا الله تعالى العزير هل أحياه فقط ليجعله آية للناس؟ هنالك أمور أخرى ذكر منها: ﴿وَلِنَجۡعَلَكَ ءَايَةٗ لِّلنَّاسِۖ،  فلمَ نجد العطف مقدراً على محذوف !؟ لنفهم أنّ هناك أموراً أخرى لم يذكرها الشرع.

السؤال الرابع:

هناك قراءتان لكلمة (نُنشِزُها) فما الفرق بينهما؟

الجواب:

في كلمة ﴿نُنشِزُهَا قراءتان: قُرئت (ننشُرُها) من (أنشر) بالراء بمعنى بعث فـ (ننشُرُها) هنا أي: نُحيِيها.

 وقُرئت ﴿نُنشِزُهَا من (أنشز) إذا رُفِعَ الشيءُ، والآية تعني رفعها حين تغلظ بإحاطة العصب واللحم والدم بها، فالقراءتان تدلان على معنى واحد.

 والنشوز : هو الارتفاع ، أي كيف نرفعها من الأرض ونردها إلى مكانها من الجسد، ومنه قوله تعالى : ﴿ وَإِنِ ٱمۡرَأَةٌ خَافَتۡ مِنۢ بَعۡلِهَا نُشُوزًا [النساء: 128]  أي ارتفاعاً معنويًا ، والمقصود به تسلطًا وظلمًا ، ومنه أيضًا: ﴿ وَإِذَا قِيلَ ٱنشُزُواْ فَٱنشُزُواْ [المجادلة: 11] أي ارتفعوا من الأرض وقوموا من المجلس . والله أعلم .

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين