مختارات من تفسير (من روائع البيان في سور القرآن) (الحلقة 211)

فضائلُ الرسل وسببُ اختلافِ الأمم

﴿۞تِلۡكَ ٱلرُّسُلُ فَضَّلۡنَا بَعۡضَهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖۘ مِّنۡهُم مَّن كَلَّمَ ٱللَّهُۖ وَرَفَعَ بَعۡضَهُمۡ دَرَجَٰتٖۚ وَءَاتَيۡنَا عِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ ٱلۡبَيِّنَٰتِ وَأَيَّدۡنَٰهُ بِرُوحِ ٱلۡقُدُسِۗ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَا ٱقۡتَتَلَ ٱلَّذِينَ مِنۢ بَعۡدِهِم مِّنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَتۡهُمُ ٱلۡبَيِّنَٰتُ وَلَٰكِنِ ٱخۡتَلَفُواْ فَمِنۡهُم مَّنۡ ءَامَنَ وَمِنۡهُم مَّن كَفَرَۚ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَا ٱقۡتَتَلُواْ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَفۡعَلُ مَا يُرِيدُ٢٥٣ [البقرة: 253]

 

السؤال الأول:

قال في أول الآية: ﴿وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَا ٱقۡتَتَلَ ٱلَّذِينَ مِنۢ بَعۡدِهِم ثم قال: ﴿ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَا ٱقۡتَتَلُواْ فما فائدة تكرارذلك ؟

الجواب:

قيل: هو تأكيد للأول، تكذيباً لمن ينكر أنْ يكون ذلك بمشيئة الله تعالى.

أنّ ﴿ٱقۡتَتَلُواْ مجاز في الاختلاف؛ لأنه كان سبب اقتتالهم، فأطلق اسم المسبب على السبب، كما في قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَأۡكُلُونَ فِي بُطُونِهِمۡ نَارٗاۖ [النساء: 10] .            

والمعنى: ولو شاء الله ما اختلفوا بعد أنبيائهم لكنْ اختلفوا، ولو شاء الله بعد اختلافهم لما اقتتلوا .

قول الحق: ﴿ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَا ٱقۡتَتَلَ ٱلَّذِينَ مِنۢ بَعۡدِهِم مِّنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَتۡهُمُ ٱلۡبَيِّنَٰتُ وَلَٰكِنِ ٱخۡتَلَفُواْ فَمِنۡهُم مَّنۡ ءَامَنَ وَمِنۡهُم مَّن كَفَرَۚ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَا ٱقۡتَتَلُواْ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَفۡعَلُ مَا يُرِيدُ٢٥٣ فيه عدة نقاط، أهمها:

آ ـ الله سبحانه أرسل الرسل يحملون منهج الله لمن يريد أنْ يعلن حبه لله وأنْ يكون خليفة في الأرض بحق وأنْ يصلح في الكون ولا يفسد، ولو شاء الله لخلق الناس كلهم طائعين له، وإنما شاء الله لبعض الأعمال والأفعال أنْ يتركها لاختيارك؛ لأنه يريد أنْ يعرف من الذي يأتيه طوعاً وليظل العبد بين الخوف والرجاء، وبالتالي مطلوب من الإنسان الارتفاع الإيماني، فيحب الله على نعمه وعلى أحداثه وأقداره، فيحبه الله ويباهي الله به الملائكة كما ورد في الحديث الشريف.

ب ـ لو أراد الحق سبحانه الكون بلا معارك بين الحق والباطل لجعل الحق مسيطراً سيطرة تسخير، لكنّ الله تعالى أعطانا تمكيناً وأعطانا اختياراً، لذلك نجد من ينشأ مؤمناً ومن ينشأ كافراً، وهكذا نجد الطائع والعاصي كلاً في فريقه.

وإياك أنْ تفهم أن وجود الكافرين في الأرض دليلٌ على أنهم غير داخلين في حوزة الله، بل إنّ الله هو الذي أعطاهم هذا الاختيار، ولو شاء الله لجعل الناس أمة واحدة ولما استطاع أحد أنْ يخرج على مراد الله.

ج ـ الاختلاف بين الناس هو سبب الاقتتال، لكنْ ألا يُمْكِنُ أنْ يكونوا قد اختلفوا ولم يقتتلوا؟ إنّ ذلك لو حدث لكان إجماعاً على الفساد، والحق لا يريد هذا الإجماع على الفساد، فإنْ لم يسيطر الخير على أمور البشرية فلا أقل من أنْ يظل عنصر الخير موجوداً، ويأتي واحدٌ ليجدد عنصر الخير وينميه.

د ـ الحق سبحانه لا يمحو في أزمنة الباطل معالم الخير والأفعال الحسنة، بل يستبقي معالم الخير ليذهب إليها إنسان يريد الخير، وقد يكون الخير ضعيفاً لكنّ الله لا يمحوه؛ لأنه يعطي به دفعة جديدة لمؤمنين جدد يرفعون راية الحق وإن بدوا ضعفاء.

والله رفع عنا العذاب من أجل وجود الضعفاء بيننا؛ لأنّ الضعفاء يمثلون خلايا الخير في المجتمع، قال «لولا عباد لله رُكَّع، وصبية رُضَّع، وبهائم رُتَّع لصُبَّ عليكم العذاب صباً» [ رواه البيهقي 345/3 ] .

هـ ـ في الاقتتال توجد تضحيات بالنفس وتضحيات بالمال، ولذلك ندب المؤمنين إلى الإنفاق في سبيل الله .

4 ـ جاء في كتاب أسرار التكرار للكرماني : قوله تعالى : ﴿ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَا ٱقۡتَتَلُواْ)  كرّر هنا تأكيداً ، وقيل ليس بتكرار لأنّ الأول للجماعة والثاني للمؤمنين ، وقيل كرّر تكذيباً لمن زعم أنّ ذلك لم يكن بمشيئة الله تعالى.

 

السؤال الثاني:

ماذا عن تأنيث كلمة ﴿ ٱلۡبَيِّنَٰتِ في الآية، وهل تُذكَّر ؟

الجواب:

كلمة ﴿ ٱلۡبَيِّنَٰتِ ليست مؤنَّثاً حقيقياً؛ لذا يجوز تذكيرها وتأنيثها .

عندما تكون ﴿ ٱلۡبَيِّنَٰتِ بمعنى العلامات الدالة على المعجزات والنبوءات يؤنث الفعل.

أما عندما تكون ﴿ ٱلۡبَيِّنَٰتِ بمعنى الأمر والنهي، يذكر الفعل.

شواهد قرآنية على التأنيث: أي: بمعنى المعجزات والنبوءات:

 الآيات:[ البقرة 209 ـ البقرة 213 ـ البقرة 253 ـ النساء 153 ].

 شواهد قرآنية على التذكير: بمعنى الأمر والنهي:

 الآيات: [ آل عمران 86 ـ آل عمران 105 ـ غافر 66 ].

 

السؤال الثالث:

قوله تعالى في الآية: ﴿ تِلۡكَ ولم يقل مثلاً: (هؤلاء)، فما دلالة ذلك ؟

الجواب:

قول الحق: ﴿ تِلۡكَ إشارة إلى الرسل بدل (هؤلاء الرسل) ليدل القرآن على أنّ الرسل هم كوحدة أو جماعة واحدة أي: تلك الجماعة ومهما اختلفوا فهم مرسلون من قبل إله واحد وبمنهج واحد، و﴿ تِلۡكَ هي إشارة لأمر بعيد، وهي إشارة كذلك إلى الرسل الذين يعْلَمُهم رسولُ الله أو الرسل الذين تقدموا في السياق القرآني.

 

السؤال الرابع:

ما دلالة قوله تعالى في الآية: ﴿ فَضَّلۡنَا ؟ وما تعريف التفضيل؟ وما فرقها عن المحاباة؟

الجواب:

قوله تعالى: ﴿ فَضَّلۡنَا التفضيل هو إيثار الغير بمزية بدافع الحكمة، ولا تقل: محاباة؛ لأنّ المحاباة هي إيثار الغير بمزيةٍ بدافع الهوى والشهوة .

 

السؤال الخامس:

 ذكر الله في هذه الآية نماذج من التفضيل وأشار إلى موسى وعيسى عليهما السلام، فلماذا لم يذكر الرسول محمداً في الآية أيضاً ؟

الجواب:

ذكر لنا القرآن نماذج من التفضيل ﴿ مِّنۡهُم مَّن كَلَّمَ ٱللَّهُۖ وهو سيدنا موسى عليه السلام، ومنهم: ﴿ وَءَاتَيۡنَا عِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ ٱلۡبَيِّنَٰتِ وبين موسى وعيسى عليهما السلام قال الحق: ﴿ وَرَفَعَ بَعۡضَهُمۡ دَرَجَٰتٖۚ  والخطاب في الآيات لمحمد وهؤلاء المذكورون من الرسل هم من أولي العزم من الرسل.

ساعة يأتي التشخيص بالوصف الغالب أو الاسم فهذا واضح، ولكنْ ساعة أنْ يأتي بالوصف ويترك لفطنة السامع أنْ يردّ الوصف إلى صاحبه، فكأنه من المفهوم أنه لا ينطبق قوله: ﴿ وَرَفَعَ بَعۡضَهُمۡ دَرَجَٰتٖۚ بحقٍّ إلا على سيدنا محمد ، وجاء بها سبحانه في الوسط بين موسى وعيسى عليهما السلام مع أنّ الرسول لم يأت في الوسط وإنما جاء آخر الأنبياء، ليدلك على أنّ منهجه هو الوسط بين اليهودية التي أسرفت في المادية بلا روحانية والنصرانية التي أسرفت في الروحانية بلا مادية، والعالم يحتاج إلى وسطية بين المادية والروحية، فجاء محمد فكان قطب الميزان في قضية الوجود.

حيثيات التفضيل للرسول كثيرة، منها:

آ ـ رسالته هي الوحيدة للإنس والجن ومستمرة حتى قيام الساعة، بينما الرسالات الأخرى محدودة بزمان أو مكان.

ب ـ معجزات الرسل السابقين معجزات مادية حسية كانت في وقتها وليس لها الآن وجود غير الخبر عنها، بينما معجزة الرسول معجزة باقية وهي القرآن الكريم، إضافة إلى معجزاته الحسية المادية الكثيرة في أيامه.

ج ـ اختصه الله من بين جميع الرسل بالتشريع، فقد كان الرسل ينقلون الأحكام عن الله وليس لهم أنْ يشرعوا، أمّا الرسول فهو الرسول الوحيد الذي قال الله له: ﴿ وَمَآ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمۡ عَنۡهُ فَٱنتَهُواْۚ [الحشر:7].

  قول الحق: ﴿ مِّنۡهُم مَّن كَلَّمَ ٱللَّهُۖ نأخذه في إطار ﴿ لَيۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَيۡءٞۖ [الشورى:11] ونحن نأخذ كل وصف يرد عن الله بواسطة الله ولا نضع وصفاً من عندنا، وبعد ذلك لا نقارنه بوصف البشر. والله أعلم .

 

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين