مختارات من تفسير (من روائع البيان في سور القرآن) (الحلقة 199)

الحكم التشريعي التاسع  والعشرون : متعة المطلقة قبل تسمية المهر وقبل الدخول بها

 

﴿لَّا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ إِن طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ مَا لَمۡ تَمَسُّوهُنَّ أَوۡ تَفۡرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةٗۚ وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى ٱلۡمُوسِعِ قَدَرُهُۥ وَعَلَى ٱلۡمُقۡتِرِ قَدَرُهُۥ مَتَٰعَۢا بِٱلۡمَعۡرُوفِۖ حَقًّا عَلَى ٱلۡمُحۡسِنِينَ٢٣٦﴾ [البقرة: 236]

 

السؤال الأول:

ما الفرق بين ﴿حَقًّا عَلَى ٱلۡمُحۡسِنِينَ٢٣٦ و ﴿حَقًّا عَلَى ٱلۡمُتَّقِينَ٢٤١ في آيتي البقرة 236و241 على الترتيب ؟

الجواب:

  الآية الأولى 236 هي في حالة المرأة المعقود عليها وطُلّقت قبل أنْ يتم الدخول بها أو لم تُفرض لها فريضة، أي: لم يحدد مهرها ، وللعلم فإنّ خلو العقد من المهر لا يؤثر على العقد ، ويثبت للمرأة مهر المثل ، والله أعلم .

 أمّا الآية الثانية 241 فهي في حالة المرأة التي عُقد عليها ثم طُلّقت وقد تم الدخول بها.

ففي الحالة الأولى الرجلُ طلَّقَ المرأةَ لكنه لم يدخل بها ولم يستفد منها أو يتمتّع بها ولم يحصل بينهما مسيس، فعندما يدفع النفقة يكون هذا من باب الإحسان، والقرآن الكريم لم يحدد القدر بل تركه مفتوحاً كلٌّ حسب سعته، لذا خُتمت الآية بقوله تعالى: ﴿حَقًّا عَلَى ٱلۡمُحۡسِنِينَ٢٣٦ [البقرة:236] .

بينما لو دخل عليها واختلى بها وحدث المسيس وخدمته وأسعدته ثم طلّقها فيدفع لها، ولو لم يدفع لها سيدخل النار، لذا ختمت الآية بـ ﴿حَقًّا عَلَى ٱلۡمُتَّقِينَ٢٤١ [البقرة:241] أي (الذين يتّقون العذاب يوم القيامة).

 

السؤال الثاني:

ماذا تعني كلمة ﴿ حَقًّا في الآية ﴿حَقًّا عَلَى ٱلۡمُحۡسِنِينَ٢٣٦ [البقرة:236]؟ وما إعراب: ﴿حَقًّا؟

الجواب:

كلمة ﴿حَقًّا تعني حقاً حقَّقه القرآن للمرأة وليس لأحد أنْ يتجاوزه، ولا تقول المرأة لا أريده إنما تأخذه وتتصدق به إنْ شاءت.

و(حقاً) هنا في الآيتين 236و 241 تفيد توكيد مضمون الجملة؛ لأنه تعالى لمّا أمر بالتمتيع وهو إعطاء قسم من المال للمرأة المطلقة على حسب الأحوال في الغنى والفقر، أراد أنْ يبين أنّ ذلك حق لهن، فأكّده بقوله ﴿حَقًّا عَلَى ٱلۡمُحۡسِنِينَ٢٣٦ و ﴿حَقًّا عَلَى ٱلۡمُتَّقِينَ٢٤١﴾ .

حقاً: مفعول مطلق منصوب.

 

السؤال الثالث:

ما أهم الدروس في الآية ؟

الجواب:

هذه الآية ذكرتْ حكمَ متعة المطلقة التي لم يُسمّ لها المهر ، وقبل الدخول بها ، وقيل إنّ هذه الآية نزلت في رجل من الأنصار تزوج امرأة من بني حنيفة ، ولم يُسمّ صداقها  ، ثم طلقها قبل أن يمسها ، فقال له النبي عليه السلام : ( متعها بقلنسوتك ) [ الكافي الشاف رقم 38 ]   .

وكأنّ عدم تسمية المهر ليس شرطاً في النكاح، بل إذا تزوجته ولم يفرض في هذا الزواج مهر فقد ثبت لها مهر المثل والعقد صحيح، ودليل ذلك أن الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿ لَّا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ إِن طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ مَا لَمۡ تَمَسُّوهُنَّ أَوۡ تَفۡرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةٗۚ ومعنى هذا أنها كانت زوجة ولم يحدث دخول للزوج بها.

هذا الطلاق قد يحرج المرأة ، وقد يسيء إلى سمعتها ، ويتحدث الناس عنها : لماذا تركها ؟ هل فيها عيب مثلاً ؟ فأمر الإسلام في هذه الحالة أن يمتعها ، أي يعطيها شيئاً من المال كهدية أو سد نفقة ، جبراً لخاطرها، وتطيباً لها ، وصيانة لعرضها ، لكي تذكر بالكلام الحسن بين الناس .

قوله تعالى : ﴿ تَمَسُّوهُنَّ ما هو المس؟ لدينا في اللغة : (مسّ ـ لمَسَ ـ ملامسة ) فالإنسان قد يمس شيئاً بسرعة، ولكنّ الماسّ لا يتأثر بالممسوس، أي لم يدرك طبيعته أو حاله هل هو خشن أو ناعم؟ دافئ أو بارد، وإلى غير ذلك.

أمّا اللمس فلابدّ من الإحساس بالشيء الملموس، وأمّا الملامسة فهي حدوث التداخل بين الشيئين. إذن عندنا ثلاث مراحل: الأولى هي: مس. والثانية: لمس. والثالثة: ملامسة.

إذن : كلمة (المس) هي أخف من (اللمس وأيسر من أنْ يقولَ: لامستم أو باشرتم، ونحن نأخذ هذا المعنى هنا في الآية؛ لأنّ هناك سياقاً قرآنياً في مكان آخر قد جاء ليكون نصاً في معنى آخر، نستطيع من سياقه أن نفهم المعنى المقصود بكلمة (المس) ، فقد قالت السيدة مريم: ﴿ قَالَتۡ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَٰمٞ وَلَمۡ يَمۡسَسۡنِي بَشَرٞ وَلَمۡ أَكُ بَغِيّٗا٢٠ [مريم:20]

إنّ القرآن الكريم يوضح على لسان سيدتنا مريم أنّ أحداً من البشر لم يتصل بها ذلك الاتصال الذي ينشأ عنه غلام ، والتعبير في منتهى الدقة، ولأنّ الأمر فيه تعرض لعورة وأسرار؛ لذلك جاء القرآن بأخف لفظ في وصف تلك المسألة وهو المس، وكأنّ الله سبحانه وتعالى يريد أنْ يثبت لها إعفافاً حتى في اللفظ، فنفى مجرد مس البشر لها، وليس الملامسة أو المباشرة برغم أنّ المقصود باللفظ هو المباشرة؛ لأنّ الآية بصدد إثبات عفة مريم.

ولنتأمل أدب القرآن في تناول المسألة في آية البقرة التي نحن بصددها؛ فكأن الحق سبحانه وتعالى يعبر عن اللفظ بنهاية مدلوله وبأخف التعبير.

الحق يقول: ﴿ مَا لَمۡ تَمَسُّوهُنَّ أَوۡ تَفۡرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةٗۚ ومعروف أنّ (أَوْ) عندما ترد في الكلام بين شيئين فهي تعني (إمّا هذا وإمّا ذاك)، فهل تفرض لهن فريضة مقابل المس؟

إنّ الأصل المقابل في﴿ مَا لَمۡ تَمَسُّوهُنَّ  هو: ( أن تمسوهن )،  ومقابل ﴿ تَفۡرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةٗۚ  هو: (أن لا تفرضوا لهن فريضة) . وكأنّ الحق عزّ وجلّ يقول: لا جناح عليكم إنْ طلقتم النساء ما لم تمسوهن سواء فرضتم لهن فريضة أو لم تفرضوا لهن فريضة. وهكذا يحرص الأسلوب القرآني على تنبيه الذهن في ملاحظة المعاني.

ولنا أن نلاحظ أنّ الحق قد جاء بلفظة (إنْ) ﴿ إِن طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ   في احتمال وقوع الطلاق، و(إنْ) كما نعرف تستخدم للشك، فكأنّ الله عز وجل لا يريد أن يكون الطلاق مجترءاً عليه ومحققاً، فلم يأت بـ (إذا)، بل جعلها في مقام الشك حتى تعزز الآية قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «أبغض الحلال إلى الله الطلاق»[رواه أبو داود 2178].

ثم يقول الحق عز وجل بعد ذلك: ﴿ وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى ٱلۡمُوسِعِ قَدَرُهُۥ وَعَلَى ٱلۡمُقۡتِرِ قَدَرُهُۥ مَتَٰعَۢا بِٱلۡمَعۡرُوفِۖ حَقًّا عَلَى ٱلۡمُحۡسِنِينَ٢٣٦   أي إنّك إذا طلقت المرأة قبل الدخول، ولم تفرض لها فريضة فأعطها متعة. وقال بعض العلماء في قيمة المتعة: إنها ما يوازي نصف مهر مثيلاتها من النساء ، وما دام لم يُحَّدد لها مهرٌ فلها مثل نصف مهر مثيلاتها من النساء. ويقول الحق: ﴿ وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى ٱلۡمُوسِعِ قَدَرُهُۥ وَعَلَى ٱلۡمُقۡتِرِ قَدَرُهُۥ مَتَٰعَۢا بِٱلۡمَعۡرُوفِۖ حَقًّا عَلَى ٱلۡمُحۡسِنِينَ٢٣٦ أي ينبغي أن تكون المتعة في حدود تناسب حالة الزوج؛ فالموسع الغني: عليه أن يعطي ما يليق بعطاء الله له، والمقتر الفقير: عليه أن يعطي في حدود طاقته.

وقول القرآن: ﴿ ٱلۡمُوسِعِ مشتق من الفعل (أوسَعَ) واسم الفاعل (موسِع) واسم المفعول (موسَع عليه)، فأي اسم من هؤلاء يطلق على الزوج؟ إنْ نظرت إلى أنّ الرزق من الحق فهو (موسع عليه)، وإنْ نظرت إلى أنّ الحق يطلب منه أن توسع حركة حياتك ليأتيك رزقك، وعلى قدر توسيعها يكون اتساع الله لك، فهو (موسع).

إذن فالموسع: هو الذي أوسع على نفسه بتوسيع حركة أسبابه في الحياة، بينما الإقتار هو الإقلال، وعلى قدر السعة وعلى قدر الإقتار تكون المتعة.

 والحق سبحانه وتعالى حينما يطلب حكماً تكليفياً لا يقصد إنفاذ الحكم على المطلوب منه فحسب، ولكنه يوزع المسؤولية في الحق الإيماني العام؛ فقوله: ﴿ وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى ٱلۡمُوسِعِ قَدَرُهُۥ وَعَلَى ٱلۡمُقۡتِرِ قَدَرُهُۥ مَتَٰعَۢا بِٱلۡمَعۡرُوفِۖ يعني إذا وُجد من لا يفعل حكم الله فلابدّ أن تتكاتفوا على إنفاذ أمر الله في أنْ يمتع كلُ واحد طلَّق زوجته قبل أن يدخلَ بها. والجمع في الأمر وهو قوله: ﴿ وَمَتِّعُوهُنَّ دليل على تكاتف الأمة في إنفاذ حكم الله.

آية البقرة (236 ) هي  كقوله تعالى : ﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نَكَحۡتُمُ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ ثُمَّ طَلَّقۡتُمُوهُنَّ مِن قَبۡلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمۡ عَلَيۡهِنَّ مِنۡ عِدَّةٖ تَعۡتَدُّونَهَاۖ فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحٗا جَمِيلٗا٤٩ [الأحزاب: 49] وقد تزوج النبي عليه السلام أميمة بنت شراحيل ، فلمّا دخلت عليه بسط إليها يده ، فكأنها كرهت ذلك ، فأمر بتجهيزها ومتعتها .

باختصار : إنْ طلق الرجلُ المرأةَ قبل أن يسمي لها مهراً ، وكان قد عقدَ عليها ، ولكنه لم يدخلْ بها ، فعليه متاعٌ بالمعروف ، ولا عدة عليها .

والله أعلم .

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين