مختارات من تفسير (من روائع البيان في سور القرآن) (الحلقة 196)

الحكم التشريعي السادس والعشرون : الرّضاعة والحضانة

 

﴿۞وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آَتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [البقرة: 233]

 

السؤال الأول:

ما اللمسة البيانية في استعمال ﴿ وَٱلۡوَٰلِدَٰتُ بالجمع و﴿  وَعَلَى ٱلۡمَوۡلُودِ لَهُۥ بالإفراد في آية سورة البقرة؟

الجواب:

حُكماً أنّ المولود للآباء والأب مولود له؛ لأنّ الولد يُنسَبُ للأبِ، فهو له وليس للأم، والأب هو المسؤول عنه والذي يتكفله ويرعاه، فهو ليس مولوداً للأمِّ، وإنما مولودٌ للأب، فالأمُّ والدةٌ والأبُ مولود له.

الأمر الآخر محتملٌ أنْ يكون للمولودِ له، وهو الأب ، أكثَرُ من زوجةٍ، فقال تعالى: ﴿ وَٱلۡوَٰلِدَٰتُ بالجمع لتشمل كل الزوجات، وقال: ﴿وَعَلَى ٱلۡمَوۡلُودِ لَهُۥ خاصة بواحدة من الزوجات.

 

السؤال الثاني:

قوله تعالى: ﴿ وَٱلۡوَٰلِدَٰتُ يُرۡضِعۡنَ أَوۡلَٰدَهُنَّ بدون (على) كما في تتمة الآية ﴿وَعَلَى ٱلۡمَوۡلُودِ لَهُۥ فلماذا ؟

الجواب:

قال تعالى ﴿وَٱلۡوَٰلِدَٰتُ يُرۡضِعۡنَ أَوۡلَٰدَهُنَّ ولم يقل: (على الوالدات)؛ لأنهن لسن مكلَّفاتٍ بإرضاعِ الولدِ فيُمكِنُ لهن ألا يُرضعن أولادهن أو أنْ يأتين بمرضعةٍ، وهن لسن مكلَّفات شرعاً بإرضاع الولد، لكنه تعالى قال: ﴿وَعَلَى ٱلۡمَوۡلُودِ لَهُۥ لأن هذا واجب الأبِ، فجمع سبحانه البيان والشرع والحكم.

 

السؤال الثالث:

قوله تعالى: ﴿ وَعَلَى ٱلۡمَوۡلُودِ لَهُۥ رِزۡقُهُنَّ وَكِسۡوَتُهُنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ  لِمَ لم يقل: (على الوالد رزقهنّ)؟

الجواب:

في هذا إيحاء للأب وتذكيرٌ له بأنّ هذا الولد لك، وهذه المنافع التي تقدمها لزوجك المطلَّقة منجرّةٌ إليك، وهذا الطفل مآله إليك، فأنت الأجدر لإعاشته ولتهيئة أسباب الحياة الكريمة له ولأمه.

 

السؤال الرابع:

قوله تعالى في الآية: ﴿ لَا تُضَآرَّ وَٰلِدَةُۢ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوۡلُودٞ لَّهُۥ بِوَلَدِهِۦۚ لِمَ لمْ يقل: ولا (والد بولده) بدل (ولا مولود له بولده) ؟

الجواب:

الرجل المولود له يُنسب إليه الولد ﴿ ٱلۡمَوۡلُودِ لَهُۥ  هو ابنه استحقاقاً ويُدعى باسم أبيه وينسب له ويلتحق به في النسب له، أمّا الوالد فهو مثل والدة لكنْ يختلف الحكم الشرعي ، فَلَيْسَ لِلزَّوْجَةِ أنْ تَتْرُكَ رَضَاعَة ابْنِها إلى مُدَّتِهَا (سَنَتَينِ) لِلإِضْرَارِ بِالزَّوْجِ، وَلَيْسَ لِلْزَّوْجِ أنْ يَنْتَزِعَ الوَلَدَ مِنْ أمِّهْ قَبْلَ أنْ تَتِمَّ مُدَّةَ رَضَاعَتِهِ لِلإِضْرَارِ بِهَا وَإيذَائِه ، واللام في ﴿ ٱلۡمَوۡلُودِ لَهُۥ) هذه لام الاستحقاق.

ولو قال: (لا تضار والدة بولدها ولا والد بولده) يكون الحكم واحداً، بينما ﴿ وَعَلَى ٱلۡمَوۡلُودِ لَهُۥ رِزۡقُهُنَّ هذا حكم آخر.

هو وُلِد له حكماً وشرعاً وعرفاً فينتسب لأبيه ويلتحق بأبيه (وُلِدَ له)، ولو قال: ولا والد بولده، لصار الحكم واحداً، فلما تغير الحكم تغيرت الصيغة .

وفي قوله تعالى : ﴿ وَعَلَى ٱلۡمَوۡلُودِ لَهُۥ رِزۡقُهُنَّ وَكِسۡوَتُهُنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ إيحاء للأب وتذكير له بأنّ هذا الولد لك ، وهذه المنافع التي تقدمها لزوجك المطلقة منجرّة إليه ،وهذا الطفل مآله إليك ، فأنت الأجدر لإعاشته ولتهيئ أسباب الحياة الكريمة له ولأمه.

 

السؤال الخامس:

ما الفرق بين الحول والسنة والعام والحِجَجِ ؟

الجواب:

أشهر ما قيل فيها:

السنة: تستعمل للقحط، وأمّا العام فيستعمل: للخصب والرخاء .

 * شواهد قرآنية :

﴿ وَلَقَدۡ أَخَذۡنَآ ءَالَ فِرۡعَوۡنَ بِٱلسِّنِينَ وَنَقۡصٖ مِّنَ ٱلثَّمَرَٰتِ [الأعراف:130].

 بمعنى أصابهم القحط.

 ﴿ ثُمَّ يَأۡتِي مِنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ عَامٞ فِيهِ يُغَاثُ ٱلنَّاسُ وَفِيهِ يَعۡصِرُونَ٤٩ [يوسف:49].

بمعنى الخصب والرخاء.

﴿ فَلَبِثَ فِيهِمۡ أَلۡفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمۡسِينَ عَامٗا [العنكبوت:14].

ألف سنة فيها شدة، وارتاح خمسين عاماً.

الحول: هو من التحول وانقلاب الشمس وحدوث صيف وشتاء، ولمّا صار صيفاً وشتاء صار حولاً وتحولاً، ومن معاني ( الحول ) الحجز والمنع يقال : ( حال الأمر بين الشيئين) واستعمله القرآن في الطلاق والموت فقط، فالموت تحولٌ وحاجزٌ بين الزوجين، والطلاق تحولٌ  وحاجزٌ بين الزوجين.

 * شواهد قرآنية :

﴿ وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوۡنَ مِنكُمۡ وَيَذَرُونَ أَزۡوَٰجٗا وَصِيَّةٗ لِّأَزۡوَٰجِهِم مَّتَٰعًا إِلَى ٱلۡحَوۡلِ غَيۡرَ إِخۡرَاجٖۚ [البقرة:240].

السياق في الموت.

﴿ وَٱلۡوَٰلِدَٰتُ يُرۡضِعۡنَ أَوۡلَٰدَهُنَّ حَوۡلَيۡنِ كَامِلَيۡنِۖ لِمَنۡ أَرَادَ أَن يُتِمَّ ٱلرَّضَاعَةَۚ [البقرة:233].

السياق في المطلقات، والطلاق تحول في الحياة.

ومن غرائب الدقة والاستعمال في القرآن مع كلمة ( الحول ) أنّ الحياة تحولت، فهذه أصبحت مطلقة والأخرى توفي عنها زوجها، فصار تحولاً وتغيراً في الحياة .

الحجج: الحجة بمعنى السنة، والحج يأتي مرة في السنة فيأتي الحاج لزيارة البيت الحرام ويقوم بمناسك معينة، ثم يعود الزائر إلى بيته .

وموسى عليه السلام التجأ زائراً إلى مدين وليس إقامة فيها ثم عاد بعد سنوات؛ ولذلك ناسب لفظ (حجج)، ولا تدل كلمة سنة أو عام على الزيارة: ﴿ عَلَىٰٓ أَن تَأۡجُرَنِي ثَمَٰنِيَ حِجَجٖۖ [القصص:27]

 

السؤال السادس:

ما الفرق بين ﴿ لَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ و ﴿ لَّا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ في القرآن الكريم ؟

الجواب:

( لا جناح عليكم ) جملة اسمية تدل على الثبوت والدوام، بينما ( ليس عليكم جناح ) جملة فعلية تدل على التجدد والانقطاع، و الجملة الاسمية أقوى من الفعلية ، وتستعمل الأولى في سياق العبادات والحقوق والعلاقات الأسرية ، وتستعمل الثانية في سياق والآداب والأخلاق وفضائل الأعمال .

 

السؤال السابع:

ما دلالة الفرق بين كتابة كلمتي ﴿ فِصَالًا بالألف الصريحة    و ﴿ وَفِصَٰلُهُۥ مع حذف الألف في القرآن الكريم ؟

الجواب:

وردت كلمة﴿ فِصَالًا بالألف الصريحة    مرة واحدة في القرآن الكريم كله في آية البقرة233 ، وهي تبين رغبة الوالدين في عدم إتمام الرضاعة للطفل لمدة سنتين ، وإيقاف الرضاعة من الأم ، أي فصله عن الرضاعة وعن أمه .

أمّا حينما يتكلم القرآن عن﴿ وَفِصَٰلُهُۥ  الرضيع عن أمه فصالاً طبيعياً فترد هذه الكلمة بشكل خاص ، بدون ألف لتوحي بالتصاق الطفل بأمه حتى لو بَعُدَ عن ثديها ، وقد جاءت هذه الكلمة مرتين في القرآن كله ، وهما :

 ﴿ وَفِصَٰلُهُۥ فِي عَامَيۡنِ [لقمان:14].

﴿ وَحَمۡلُهُۥ وَفِصَٰلُهُۥ ثَلَٰثُونَ شَهۡرًاۚ [الأحقاف:15].

والله أعلم .

 

السؤال الثامن:

ما  أهم دلالات هذه الآية ؟

الجواب:

  حكم الرضاعة : هذه الآية تتكلم عن حالة خاصة لحكم الرضاعة ،  وهي حالة المرأة المطلقة وعندها رضيع ، ويتعذر عليها الزواج وهي مرضعة ، ويقلل هذا الرضاع من رغبة الناس فيها ، ويلحق بالرضيع ضرر من جراء ذلك ، فالمُراد خصوص الوالدات المطلقات .

الرضاعة التي يترتب عليها حكم شرعي هي التي تكون في سن الحولين ، السنة الأولى والسنة الثانية من عمر الطفل ، ولا عبرة برضاع الكبير الذي فوق هذه السن ، لقوله تعالى : ﴿ وَفِصَٰلُهُۥ فِي عَامَيۡنِ [لقمان:14].

3 ـ حكم الحضانة : في حالة المرأة المطلقة ولها طفل رضيع يتعذر عليها الزواج بسببه ، ويعزف عنها الخُطّاب ، هي غير ملزمة برضاعه ، وعلى والد الطفل إنْ كانت الأم المرضعة مطلقة ، أن يقوم بواجب نفقة الحضانة لهذه الأم ، فيتكلف أعباء السكن والنفقة والكسوة وغير ذلك لها ولرضيعها .

4 ـ لا يحل للوالدين أن يجعلوا المولود وسيلة للمضارة بينهما ، فلا يُنزَع الولد من أمه ، ولا تُجبر الأم على الرضاع إذا قبِل المولودُ الرضاع من غيرها ، ولا يُرهق الأب بالنفقة الزائدة ، والقاعدة العامة هي : لا ضرر ولا ضرار .

5 ـ إذا مات الأب انتقلت النفقة إلى وارث الأب .

6 ـ تجب الرضاعة على الأم في أربع حالات :

آ ـ إنْ كان أبوه قد مات ، وليس له غير أمه .

ب ـ إنْ كان الطفل لا يقبل ثدياً آخر غير ثدي أمه .

ج ـ إنْ كان الزوج عاجزاً لا يستطيع أن يؤجّر امرأة أخرى كي ترضعه .

د ـ إنْ كانت المرأة لم تزل في عصمة الرجل أو كانت في أثناء العدة .

وفي غير هذه الحالات الأربع فالرضاع مندوب في شان الأم المطلقة أو الأرملة ، ولا يجوز استئجار الأم ما دامت زوجة أو معتدة .

7 ـ قوله تعالى في ختام الآية : ﴿ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ٢٣٣ أي خافوا الله واعلموا أنه مطّلع عليكم، وسيجازيكم عليها .  والله أعلم .

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين