مختارات من تفسير ( من روائع البيان في سور القرآن) (الحلقة 195)

الحكم التشريعي الخامس والعشرون : عَضْلُ الأولياء للمرأة

 

﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [البقرة: 232]

 

السؤال الأول:

قوله تعالى في الآية: ﴿ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ [البقرة:232] استعمل (العضل) بمعنى المنع والحبس، وهو لفظ أغرب بالدلالة من المنع، فما سبب اختيار هذه الكلمة؟

الجواب:

إنّ المنع قد يحتمل أمرين: منعاً بحقٍّ ومنعاً بغير حَقٍّ، أمّا العضل فهو منع ولكنه دون حق أو إصلاح . فنهى الوليّ عن منع المرأة في العودة إلى زوجها دون وجه إصلاح، لذا كان اختيار كلمة تعضُلوهن دون تمنَعوهن.

 

السؤال الثاني:

ما الفرق بين ﴿ ذَٰلِكَ و﴿ذَٰلِكُمۡ في الاستعمال القرآني ؟

الجواب:

  الكاف في ﴿ ذَٰلِكَ حرف خطاب، وحرف الخطاب في (ذلك) و(تلك) و(أولئك) قد يطابق المخاطب: نحو: ذلك، ذلكما، ذلكنّ حسب نوع المخاطب المشار إليه.

حرف الخطاب في اسم الإشارة فيه لغتان، وكلاهما جائز لغوياً:

 آ- أنه يجعل مطابقاً للمخاطب إذا كان مفرداً أو مفردة أو مثنى أو جمع ذكور أو إناث.

 ب- ولك أن تجعله بلفظ واحد وهو الإفراد والتذكير أياً كان المخاطَب .

لكن يبقى: كيف استعملها القرآن بيانياً؟

والجواب: أنه مرة يستعملها مفرداً ومرة يستعملها جمعاً. فلماذا؟

هنالك أسباب عدّة لهذا الأمر من جملتها:

آـ أنْ يكون في مقام التوسع والإطالة في التعبير وزيادة التفصيل، فيأتي بالحرف المناسب للجمع؛ لأنّ ﴿ ذَٰلِكُمۡ أكثر من ﴿ ذَٰلِكَ من حيث الحروف، وإذا كان في مقام الإيجاز يأتي بكل ما في الإيجاز لغة .

 شواهد قرآنية: قوله تعالى:

﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ[الأنعام: 99]   الآية فيها تفصيل فقال: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فجمع ﴿ ذَٰلِكُمۡ حتى تتلاءم مع ما قبلها.

﴿ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [النحل:12]  استعمل ( ذلك ) لأنّ المقام مقام إيجاز.

ب ـ في مقام التوكيد يأتي بما هو أكثر توكيداً فيجمع، وإذا كان المقام أقل توكيداً يُفرِد.

شواهد قرآنية: قوله تعالى:

ـ ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [البقرة:232] هذا حُكمٌ في الطلاق، قال: ﴿ ذَٰلِكُمۡ .

ـ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المجادلة:12]  هنا قال ﴿ ذَٰلِكَ [المجادلة:12].

لكن أيُّ الحُكمين آكد وأدوم؟ بالطبع الطلاق آكد وأدوم؛ لأنه حكمٌ عامٌ إلى قيام الساعة يشمل جميع المسلمين ،أمّا الآية الثانية فهي للأغنياء ثم ما لبث أياماً قليلة ونسخ الحكم، حيث قال تعالى: ﴿ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ [المجادلة:13]، فالآية الأولى آكد والحكم فيها عام مستمر، أمّا الثانية فالحكم متعلق بجماعة من المسلمين ثم ألغي، فالآية الأولى آكد فقال: ﴿ ذَٰلِكُمۡ ومع الأقل قال:

﴿ ذَٰلِكَ .

وكذلك إذا كان عندنا مجموعتان إحداهما أوسع من الأخرى يستعمل للأوسع ضمير الجمع وللأقل ضمير الإفراد.

 

السؤال الثالث:

قال في آية البقرة 232: ﴿ ذَٰلِكَ يُوعَظُ بِهِۦ وفي آية الطلاق 2: ﴿ ذَٰلِكُمۡ يُوعَظُ بِهِۦ [الطلاق:2] فلماذا؟

الجواب:

  في آية البقرة حيث قال: ﴿ ذَٰلِكَ فالخطاب للنبي وقُدِّمَ تشريفاً له، ثم عمَّم، فقال:

 ﴿ ذَٰلِكُمۡ أَزۡكَىٰ لَكُمۡ وَأَطۡهَرُۚ [البقرة:232] .

وفي آية الطلاق: الخطابُ له وللأُمَّةِ جميعاً، وقدّم تشريفَه بالنداءِ لقوله: ﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق:1].

في اللغة العربية جائز توحيد الكاف ﴿ ذَٰلِكَ وجائز التثنية، والقرآن جاء بالحالتين:

 شواهد قرآنية:   

﴿ ذَٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّيٓۚ [يوسف:37].

﴿ قَالَتۡ فَذَٰلِكُنَّ ٱلَّذِي لُمۡتُنَّنِي فِيهِۖ [يوسف:32].

 

السؤال الرابع:

ما دلالة هذه الآية ؟

الجواب:

العَضَل : هو الحبس والتضييق والمنع ، يُقال : هذا مرضٌ عُضال ، وأعضل الأمر أي: اشتد .

الخطاب في الآية عام ، موجه لأولياء الأمور جميعاً ألا يمنعوا بناتهنّ وأخواتهنّ ومن لهم ولاية عليهن من الزواج ممن يرغبنَ فيه ، أو العودة إلى الزوج الأول إذا أرادت الرجعة ، وهذا هو العضَل ، أي المنع من الرجعة أو التزوج .

هذه الآية خطاب من الله لأولياء المرأة المطلقة دون الثلاث ، إذا انتهت عدتها، وأرادت العودة إلى زوجها ، وهذا هو المُراد الأساس في الآية لقوله تعالى : ﴿ يَنكِحۡنَ أَزۡوَٰجَهُنَّ  أي يردن الرجعة إلى من طُلقت منه طلاقاً رجعياً  ، كما يمكن أن يكون الخطاب أيضاً موجهاً لأولياء الأمور كما ذكرنا في الفقرة السابقة .

4 ـ قوله تعالى : ﴿   وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ٢٣٢   فهو يعلم صلاحكم وأنتم لا تعلمون ذلك .

والله أعلم .

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين