من روائع البيان في سور القرآن (164)

مختارات من تفسير من روائع البيان في سور القرآن (الحلقة 164)

مثنى محمد هبيان

 

﴿ٱلحَجُّ أَشهُر مَّعلُومَـٰتࣱۚ فَمَن فَرَضَ فِیهِنَّ ٱلحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِی ٱلحَجِّۗ وَمَا تَفعَلُوا۟ مِن خَیر یَعلَمهُ ٱللَّهُۗ وَتَزَوَّدُوا۟ فَإِنَّ خَیرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقوَىٰۖ وَٱتَّقُونِ یَـٰأُولِی ٱلأَلبَـٰبِ﴾ [البقرة: 197]

السؤال الأول:

ما الفرق بين الفسق والكفر والظلم؟

الجواب:

1ـ الفسق: هو الخروج عن الطاعة من: (فسقت الرطبة) إذا خرجت من قشرها، ويمتد هذا الفسق من أيسر الخروج حتى يصل إلى الكفر، وكله يسمى فسقاً، فالذي يخرج عن الطاعة وإنْ كان قليلاً يسمى فاسقاً والكافر يسمى فاسقاً أيضاً.

 شواهد قرآنية:

﴿إِلَّآ إِبلِيسَ كَانَ مِنَ ٱلجِنِّ فَفَسَقَ عَنۡ أَمرِ رَبِّهِۦٓۗ﴾ [الكهف:50] الكلام عن إبليس.

 ﴿وَمَن كَفَرَ بَعدَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلفَٰسِقُونَ﴾ [النور:55] الكفر سماه فسوقاً، والنفاق سماه فسوقاً.

﴿أَفَمَن كَانَ مُؤمِنا كَمَن كَانَ فَاسِقاۚ لَّا يَستَوُۥنَ﴾ [السجدة:18].

﴿إِنَّ ٱلمُنَٰفِقِينَ هُمُ ٱلفَٰسِقُونَ﴾ [التوبة:67].

والفسق هو الخروج عن الطاعة، والفاسق ليس بالضرورة كافراً؛ لكنْ قد يصل إلى الكفر، وقد لا يصل كما في آية البقرة هذه: ﴿فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي ٱلحَجِّۗ﴾ [البقرة:197] فالفسوق ليس كفراً هنا، وكيف يكون كفراً في الحج؟

وكذا في قوله تعالى: ﴿وَإِن تَفعَلُواْ فَإِنَّهُۥ فُسُوقُۢ بِكُمۡۗ﴾ [البقرة:282] فهذا ليس كفراً. وليس كل فاسق كافراً، لكن كل كافر فاسق قطعاً، قال تعالى: ﴿إِنَّ ٱلمُنَٰفِقِينَ هُمُ ٱلفَٰسِقُونَ﴾ [التوبة:67].

2ـ الظلم: هو مجاوزة الحد عموماً، وقد يصل إلى الكفر: ﴿وَٱلكَٰفِرُونَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ﴾ [البقرة:254] وقد لا يصل.

3ـ أما الكفر: فهو الخروج عن المِلّة، والكفر أصله اللغوي السِّتُر، وتستعار الدلالة اللغوية للدلالة الشرعية.

السؤال الثاني:

لم عبّر ربنا سبحانه وتعالى بالنفي في قوله: ﴿فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي ٱلحَجِّۗ﴾ [البقرة:197] ولم يعبّر بالنهي فلم يقل: ولا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا؟

الجواب:

ذلك لأنّ النفي أبلغ من النهي الصريح، فالنهي قد يعني أنه يمكن أن يحصل هذا الفعل لكنكم منهيوّن عنه، أمّا النفي فيعني أنّ هذا الفعل ينبغي أنْ لا يقع أصلاً، وأنْ لا يكون له وجود أبداً، فضلاً عن أنْ يفعله أحدٌ منكم أيها المسلمون، ومن ثمّ أدخل النفي على الاسم لينفي جنس الفعل وأصله.

السؤال الثالث:

أمر في الآية بالتقوى بشكل عام ثم أمر أولي الألباب خاصة بالتقوى، فماذا يسمى هذا في اللغة؟

الجواب:

قوله تعالى: ﴿وَمَا تَفعَلُواْ مِنۡ خَيرٖ يَعلَمهُ ٱللَّهُۗ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقوَىٰۖ وَٱتَّقُونِ يَٰٓأُوْلِي ٱلأَلبَٰبِ﴾ [البقرة:197]

 تأمل أخي المؤمن كيف ذكر الأمر بالتقوى عاماً للناس كلهم، ثم أمر أولي الألباب خاصة بالتقوى، وهذا يسمى الإطناب، وفائدة الإطناب هنا أنْ الأمر بالتقوى ليس خاصاً بأولي الألباب وحدهم ولا يتوجه الكلام إليهم دون غيرهم؛ لأنّ كل إنسان مأمور بالتقوى، لكنْ ذكر هنا الخاص بعد العام للتنبيه على فضل الخاص وهم أولوا الألباب، وأرجحيته على العام وهم عوام الناس؛ لأنّ الناس يتفاضلون بالألباب وبها يتمايزون.

السؤال الرابع:

ورد في الآية لفظة ﴿فِيهِنَّ﴾ فلماذا لم يستعمل لفظة (فيها) مثلاً؟

الجواب:

 أشهر الحج ثلاثة، وهي جمع قلة، حيث جمع القلة من الثلاثة إلى العشرة، فإذا زاد العدد عن العشرة كان جمع كثرة.

وفي جمع غير العاقل، فالغالب أن يعود عليه الضمير في جمع الكثرة بالإفراد وفي جمع القلة بالجمع، فتقول: (الأشجار سقطتْ) الضمير العائد ـ هي ـ إذا كان عددها كبيراً فوق العشرة، وتقول: (الأشجار سقطنَ) الضمير العائد ـ هنّ ـ إذا كان عدد الأشجار قليلاً دون العشرة.

ولفظة (فيهنّ) تتكون من حرف الجر واتصل به ضمير جر (هاء الغائب)، وضمائر الجر المتصلة هي:

آ ـ ياء المتكلم، نحو: كتابي.

ب ـ كاف المخاطب، نحو: كتابكَ ـ كتابكِ ـ كتابكما ـ كتابكم ـ كتابكن.

ج ـ هاء الغائب، نحو: (كتابهُ ـ كتابها) للمفرد المذكر والمؤنث ـ (كتابهما) للمثنى ـ (كتابهم ـ كتابهنّ) للجمع المذكر والمؤنث.

ولذلك فإنّ لفظة (فيهن) تستعمل مع الجمع، بينما تستعمل لفظة (فيها) أو لفظة (فيه) مع الإفراد.

 وفي الآية جاء اللفظ ﴿فِيهِنَّ﴾ فأعاد الضمير على أشهر الحج بالجمع، لأنّهن ثلاثة أشهر (جمع قلة).

وبصورة أخرى نستطيع أن نقول:

1ـ ضمير الإناث يستعمل للإناث، ويستعمل لجمع غير العاقل، نقول: الجبال هُنّ شاهقات، وما نقول: هم، وفي قوله تعالى: ﴿ٱلحَجُّ أَشهُر مَّعلُومَـٰتࣱۚ فَمَن فَرَضَ فِیهِنَّ ٱلحَجَّجاء اللفظ (فيهن) للأشهر.

2 ـ جمع المؤنث السالم نحو: (ممسكات، كاشفات) أيضاً يستعمل الجمع منه للمؤنث الحقيقي، ويستعمل لجمع مذكر غير عاقل سواء كان وصفاً أو اسماً، نقول مثلاً: جبال شاهقات، أنهار جاريات، بل حتى أحياناً الاسم غير العاقل الذي ليس له جمع آخر يستعمل المؤنث مثل: اصطبل اصطبلات، حمّام حمّامات، بينما ضمير الواو في جمع المذكر السالم هذا لا يستعمل إلا للذكور العقلاء فقط.

لمزيد من التفصيل انظر آية التوبة 36.

 السؤال الخامس:

ما أهم دلالات هذه الآية؟

الجواب:

1ـ الفاء في قوله تعالى: ﴿فَمَن فَرَضَ﴾ فاء الفصيحة لأنها جاءت بمثابة تفصيل لمن استوضح عن المجمل.

2 ـ قوله تعالى: ﴿فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي ٱلحَجِّۗ﴾ فيه ضرب من النهي عجيب، حيث تخصيص النهي عن ذلك في الحج يشعر أنّ هذه الأعمال وإنْ كانت قبيحة خارج الحج، ولكنّ قبحها في الحج أمرٌ فوق الاجتناب.

3ـ قوله تعالى: ﴿وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقوَىٰۖ﴾ فيه تشبيه بليغ، فقد شبّه التقوى بالزاد.

4 ـ الإطناب في قوله تعالى: ﴿يَٰٓأُوْلِي ٱلأَلبَٰبِ﴾ للتنبيه على فضل الخاص على العام، وإنما يتفاضل الناس بالألباب التي هي العقول.

وللعلم لم تأت كلمة (الألباب) في القرآن إلا بالجمع، ولم تأت منفردة ربما لعذوبة الجمع وسماجة المفرد فيها.

وختمت آية الحج بهذه الجملة ﴿وَٱتَّقُونِ يَٰٓأُوْلِي ٱلأَلبَٰبِ﴾ تأكيداً على تحقيق التقوى في أعمال الحج.

5 ـ سعة البيوت حسب الغنى ومساحة اﻷرض، وسعة القبور بصلاح العمل ورضا الرب:

 ﴿وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقوَىٰۖ﴾.

6 ـ قال الطبري: كيف قيل: ﴿ٱلحَجُّ أَشهُرٞ مَّعلُومَٰتٞۚ﴾ وهو شهران وبعض الثالث؟ يجيب ابن جرير الطبري فيقول: «إنَّ العرب لا تمتنع خاصةً في الأوقات من استعمال مثل ذلك، فتقول: اليوم يومان منذ لم أره. وإنما تعني بذلك يومًا وبعض آخر، وكما قال جلّ ثناؤه: ﴿فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَومَينِ﴾ [البقرة: 203] وإنما يتعجل في يوم ونصف».

 7ـ جاء في تفسير السعدي: التزود فيه الاستغناء عن المخلوقين، والكف عن أموالهم سؤالًا واستشرافًا، أمّا الزاد الحقيقي المستمر نفعه لصاحبه في دنياه وأُخراه، فهو زاد التقوى الذي هو زادٌ إلى دار القرار، ومن ترك هذا الزاد فهو المنقطَع به الذي هو عرضة لكل شر، وممنوع من الوصول إلى دار المتقين. فهذا مدح للتقوى.

8 ـ وجاء في تفسير السعدي أيضاً: وقفت متأملًا لقوله تعالى: ﴿ٱلحَجُّ أَشهُرٞ مَّعلُومَٰتٞۚ﴾ فتساءلت: لماذا تميز وقت الحج بـ(أشهر) دون سائر الأركان؟ فكأنه لعدم وجوبه في العمر إلا مرة واحدة، ولبعد مسافة قاصده غالبًا ﴿يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾ [الحج: 27]؛ أطال أمده ليقضي المسلم نهمته من العبادة في الحرم، ويتهيأ قبل فترة المناسك وبعدها، إذ يقدم مبكرًا وينصرف متأخرًا إنْ رغب، توسعة ورحمة، وحثًا على المبادرة والتزود؛ لما لذلك من أثر إيجابي في حياته.

9 ـ جاء في تفسير الشعراوي: في آيات الصيام قال الله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ [البقرة: 185] سمى الله شهر رمضان، ولكنه لم يسم أشهر الحج، وإنما قال: ﴿ٱلحَجُّ أَشهُرٞ مَّعلُومَٰتٞۚ﴾ والسبب أنّ الحج كانت تعرفه العرب، فلا حاجة لتسمية شهوره، أمّا الصيام فهي عبادة جديدة، لم تعرفها العرب من قبل، فسمي لأجل ذلك شهر رمضان.

والله أعلم.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين