من روائع البيان في سور القرآن (161)

مختارات من تفسير من روائع البيان في سور القرآن (الحلقة 161)

مثنى محمد هبيان

 

الحكم الثامن : القتال في الأشهر الحُرُم لردّ العدوان

 

﴿ٱلشَّهرُ ٱلحَرَامُ بِٱلشَّهرِ ٱلحَرَامِ وَٱلحُرُمَٰتُ قِصَاصٞۚ فَمَنِ ٱعتَدَىٰ عَلَيكُمۡ فَٱعتَدُواْ عَلَيهِ بِمِثلِ مَا ٱعتَدَىٰ عَلَيكُمۡۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: 194]

السؤال الأول:

ما المقصود بقوله تعالى: ﴿فَمَنِ ٱعتَدَىٰ عَلَيكُمۡ فَٱعتَدُواْ عَلَيهِ بِمِثلِ مَا ٱعتَدَىٰ عَلَيكُمۡۚ﴾  [البقرة:194] ؟

الجواب:

 هذا الأسلوب يسميه العرب وأهل البلاغة المشاكلة، بأنْ تستعمل اللفظة نفسها وإنْ كان المفهوم مختلفاً. فالمفهوم من الآية عقاب، لكنْ يأخذ اللفظة نفسها فيستعملها على سبيل المشاكلة وليس على سبيل نفس الدلالة التي دلّ عليها، وهذا هو معنى الآية فهو ليس عدواناً وإنما هو عقاب على عدوانهم؛ لأنه ردٌّ للعدوان.

 وكذلك في قوله تعالى: ﴿وَيَمكُرُونَ وَيَمكُرُ ٱللَّهُۖ﴾ [الأنفال:30] فهم يمكرون ويمكر الله، هم يدبرون السوء، والمشاكلة: ﴿وَيَمكُرُ ٱللَّهُۖ﴾ هو نوع من عقاب الله تعالى، يعاقبهم على مكرهم، فعقوبة الله تعالى لهم سميت مكراً من قبيل المشاكلة، وقوله تعالى: ﴿وَيَمكُرُ ٱللَّهُۖ﴾ [الأنفال:30] هذا المكر من الله ليس تدبيراً سيئاً في ذاته، وإنما هو سوء لهم أو سوء عليهم، والأصل في غير القرآن: ويدبر الله لهم العقاب.

قال الشاعر أبو الرقعمق:

قالوا: التَمِس شيئاً نُجِد لك طَبخَـــه

** قُلتُ: اطبخُوا لي جُبّةً وقميصاً

 

فالجبة والقميص لا يطبخان، وإنما يخاطان، والذي سوغ الطبخ في جانب الجبة والقميص وقوع الطبخ الحقيقي مصاحبًا له في البيت، وهي مصاحبة حقيقية في اللفظ.

السؤال الثاني:

لم سُمِّيَ جزاءُ العدوانِ عدواناً ؟

الجواب:

هذا من قبيل المشاكلة اللفظية، وهي الاتفاق في اللفظ مع الاختلاف في المعنى، ومثله قوله تعالى: ﴿وَجَزَٰٓؤُاْ سَيِّئَةٖ سَيِّئَةٞ مِّثلُهَاۖ﴾  [الشورى:40] وكأنّ في ذلك إشارة لك أخي المؤمن إلى أنه الأَولى لك هو الصفح والعفو لا الانتقام ومجازاة المعتدي إذا كان المعتدي عليك مسلماً مثلك، فسمى حقك في الرد على عدوان غيرك عليك عدواناً؛ ترغيباً لك في العفو والصفح.

السؤال الثالث:

ما دلالة هذه الآية ؟

الجواب:

1ـ لمّا عزم المسلمون على عمرة القضاء سنة سبع من الهجرة ، وقع في نفوسهم ألا يفي المشركون بعهدهم فيتعرضوا لهم بالقتال عند دخولهم مكة وهم في شهر حرام ، فإن دافعوا عن أنفسهم يكونون قد انتهكوا حرمة الشهر الحرام فنزلت هذه الآية تقول لهم : وإنْ قاتلوكم في الأشهر الحرم فقتالكم لهم جزاء لقتالهم ، فالحرمات قصاص ، أي : يستحل قتالهم فيه كما استحلوه بقتالكم فيه .

وكان المشركون قد افتخروا بصد النبي عليه السلام عن البيت الحرام يوم الحديبية سنة ست من الهجرة ، فأدخله الله مكة في السنة التالية في نفس الشهر وهو ذو القعدة . (تفسير الطبري) .

2ـ قوله تعالى : ﴿ وَٱلحُرُمَٰتُ قِصَاصٞۚ﴾ (الحُرُمات) جمع حُرْمة ، والحُرمة ما مُنع من انتهاكه ، و(القصاص) المساواة والمثل ، وهومن باب عطف العام على الخاص والمراد بالحُرُمات : الشهر الحرام والبلد الحرام وحُرْمة الإحرام . والمراد: إنْ أقدموا على مقاتلتكم فقاتلوهم أنتم أيضاً ، فهم بدؤوا بالعدوان على الحُرمات على سبيل القصاص .

3ـ الفاء في قوله تعالى: ﴿ فَمَنِ ٱعتَدَىٰ عَلَيكُمۡ﴾ هي فاء الفصيحة .

4 ـ قوله تعالى: ﴿فَمَنِ ٱعتَدَىٰ عَلَيكُمۡ فَٱعتَدُواْ عَلَيهِ بِمِثلِ مَا ٱعتَدَىٰ عَلَيكُمۡۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ﴾ لأنه عند استيفاء الحقوق ، تكون النفوس مشحونة ، فأمر الله بالتقوى صيانة عن الزلل.

5ـ هذه الآية وما قبلها كانت دعوة إلى الجهاد بالنفس ، والآية التالية (البقرة 195) هي دعوة إلى الجهاد بالمال . والله أعلم .

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين