من روائع البيان في سور القرآن (158)

مختارات من تفسير من روائع البيان في سور القرآن (158)

 

مثنى محمد هبيان

 

الحكم التشريعي السابع: مراحل تشريع القتال

﴿وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُم وَلَا تَعتَدُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلمُعتَدِينَ١٩٠ [البقرة: 190]

 

السؤال الأول:

ما أهم الدروس في هذه الآية؟

الجواب:

خصّ الله سبحانه وتعالى الأمة الإسلامية بخصوصية فريدة، وهذه الخصوصية هي أنّ الله قد أمّن الأمة الإسلامية على أنْ يكون في يدها الميزان، وليس هذا الميزان ميزان تسلط وإنما هو ميزانٌ يحمي كرامة الإنسان بأنْ يصون له حرية اختياره بالعقل الذي خلقه الله فلا إكراه في الإيمان بالله.

وقد شرع الله القتال لأمة محمد لا ليفرض به ديناً ولكن ليحمي اختيارك في الدين الذي ترتضيه، وهو يمنع سدود الطغيان التي تحول دونك ودون أنْ تكون حراً مختاراً في أن تقبل التكاليف.

3 ـ الذين يقولون إنّ الإسلام انتشر بالسيف حججهم واهية.

4 ـ الذين يقولون إنّ الإسلام عندما يفرض الجزية فكأنه جاء لجباية الأموال!! نقول لهم: جزيةً على من؟ جزيةً على غير المؤمن، وما دام قد فُرضت عليه جزية فمعنى ذلك أنه أباح له أنْ يكون غير مؤمن، ولو كان الإسلام يُكره الناس على اعتناقه لما كان هناك من تؤخذ منه جزية.

إذن فالإسلام لم يُكره الإنسان وإنما حماه من القوة التي تسيطر عليه حتى لا يُكرهه أحدٌ على ترك دينه، وهو حرٌّ بعد ذلك في أنْ يسلم أو لا يسلم، وكأنّ الذين ينتقدون الإسلام يدافعون عنه، فسهامهم قد ارتدت إليهم.

كان السبب في حروب الإسلام لمواجهة الذين يفرضون العقائد الباطلة على غيرهم، وجاء الإسلام ليقول لهؤلاء: ارفعوا أيديكم عن الناس واجعلوهم أحراراً في أنْ يختاروا الدين المناسب.

ولماذا تركهم الإسلام أحراراً؟ لأنه واثق أنّ الإنسان مادام على حريته فلا يمكن أنْ يجد إلا الحق واضحاً في الإسلام.

كثير من الناس لا يفطنون إلى علة الآية ﴿ لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ [البقرة:256] وهي واضحة في الآية نفسها ﴿ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّۚ [البقرة:256].

لذلك نحن فقط نمنع الذين يفرضون على الناس عقائدهم الباطلة، فأنت تستطيع أنْ تُكره القالب ولكن لا تستطيع أنْ تُكره القلب، والله لا يريد منا أنْ نكون قوالب مُكرهة ولكن يريد منا قلوباً مطيعة.

 7 ـ الحكمة من تأخير الإذن بالقتال في الإسلام أنّ الله أراد أنْ يمحّص ويختبر، وألا يدخل هذا الدين إلا من يتحمل متاعبه ومسؤولياته ومشاقه.

ومن رحمة الله سبحانه أنه لم يشرّع القتال منذ البداية، وإلا لكنا فقدنا كثيراً من قادة الإسلام العظام الذين حملوا لواء الدعوة الإسلامية مثل خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل وعمرو بن العاص، وغيرهم كثير.

8 ـ لقد كان من الممكن أنْ ينصر الله دينه من أول وهلة دون تدخلٍ من المسلمين، وكان معنى هذا أنّ الناس سيتساوون في الإيمان أولهم وآخرهم، ولكن شاءت إرادته تعالى أنْ يجعل لهذا الدين رجالاً يفدونه بأرواحهم وأموالهم لينالوا الشهادة ويرتفعوا إلى مصاف النبيين.

ولذلك جاء الأمر بالقتال متأخراً وبالتدريج.

9 ـ دائماً يؤكد الحق في آيات القتال أنْ يكون ﴿ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ لأنه يريد أن يضع حداً لجبروت البشر، فلا قتال من أجل الحياة أو المال أو السوق الاقتصادي، وإنما لإعلاء كلمة الله ونصرة دين الله، وهذا هو غرض القتال في الإسلام.

10 ـ مرّ القتال في الإسلام بثلاث مراحل:

آ ـ مجرد الإذن بالدفاع عن النفس، وهو ما جاء في آية الحج: ﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَٰتَلُونَ بِأَنَّهُمۡ ظُلِمُواْۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ نَصۡرِهِمۡ لَقَدِيرٌ٣٩ٱلَّذِينَ أُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِم بِغَيۡرِ حَقٍّ إِلَّآ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُۗ [الحج:39-40] حيث كان قبلها مأموراً بالصبر والتسامح.

ب ـ الأمر بالقتال ضمن شروط ثلاث:

ـ في سبيل الله فقط لنصرة دين الله وإزالة العقبات أمام نشر الدعوة: ﴿ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ .

ـ قاتلوا الذين يقاتلونكم فقط: ﴿ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ .

ـ أن لا يبدؤوا غير المسلمين بالقتال، ويردوا العدوان: ﴿ وَلَا تَعۡتَدُوٓاْۚ، بحيث يكون رد العدوان ليس حمية، وإنما لإعلاء كلمة الله ونصرة دينه.

ج ـ قتال المشركين كافة إذا قاتلوا كافة، فهي مشروطة بها. قال تعالى: ﴿ وَقَٰتِلُواْ ٱلۡمُشۡرِكِينَ كَآفَّةٗ كَمَا يُقَٰتِلُونَكُمۡ كَآفَّةٗۚ [التوبة:36]. والله أعلم.

السؤال الثاني:

ما الفرق بين القتال والجهاد في الاستعمال القرآني؟

الجواب:

القتال، هو أخص من الجهاد، ولا يستعمل إلا في إعلاء كلمة الله، ومع الذين يقاتلوننا، ونجده مشروطًا بعدم الاعتداء والتجاوز، قال تعالى:

﴿ وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوٓاْۚ [البقرة: 190].

﴿ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيَقۡتُلُونَ وَيُقۡتَلُونَۖ [التوبة: 111].

 ﴿ وَمَن يُقَٰتِلۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيُقۡتَلۡ أَوۡ يَغۡلِبۡ [النساء: 74].

وسمَّى الدعوة إلى الله جهاداً؛ لما فيها من تحمُّل الجهد والمشقة. قال تعالى:

﴿ يُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوۡمَةَ لَآئِمٖۚ [المائدة: 54].

﴿ فَلَا تُطِعِ ٱلۡكَٰفِرِينَ وَجَٰهِدۡهُم بِهِۦ جِهَادٗا كَبِيرٗا٥٢ [الفرقان: 52].

﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ جَٰهِدِ ٱلۡكُفَّارَ وَٱلۡمُنَٰفِقِينَ وَٱغۡلُظۡ عَلَيۡهِمۡۚ [التحريم: 9].

2 ـ الجهاد أعم من القتال، فالجهاد يكون باللسان، ويكون بالسنان - وهو القتال -، ويكون بالمال، وتحت كل مرتبة مراتب متعددة.

آ ـ فالجهاد باللسان منه جهاد الكافرين، ومنه جهاد المنافقين، ومنه جهاد أهل البدع، ومنه جهاد أهل الضلال والشهوات.

وأمّا القتال فلا يكون إلا بالسنان، فمنه قتال الكفار، ومنه قتال البغاة، ومنه قتال الخوارج، وأعظم أنواع القتال قتال الذين كفروا؛ فإنّ الله جل وعلا أمر بقتالهم، قال تعالى:

﴿ قَٰتِلُواْ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلَا بِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ ٱلۡحَقِّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ حَتَّىٰ يُعۡطُواْ ٱلۡجِزۡيَةَ عَن يَدٖ وَهُمۡ صَٰغِرُونَ٢٩ [التوبة: 29].

﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قَٰتِلُواْ ٱلَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ ٱلۡكُفَّارِ وَلۡيَجِدُواْ فِيكُمۡ غِلۡظَةٗۚ [التوبة: 123]. أي: شدة.

ب ـ وجهاد الكفار بالسنان نوعان: جهاد طلب، وجهاد دفع.

-           النوع الأول: جهاد الطلب: وهو أن نغزو الكفار في ديارهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.

قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلا بِحَقِّ الإِسْلامِ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ) رواه البخاري ومسلم.

ـ النوع الثاني: وهو جهاد الدفع: فإذا داهم العدو بلداً إسلامياً، أو قاتل العدو إحدى البلاد الإسلامية، فالجهاد حينئذ واجب، فإنْ قامت الكفاية بأهل تلك البلاد، فَبِها ونِعْمَت، فالبقية يساندونهم بالمال والدعاء، وإنْ لم تقم الكفاية بأهل تلك البلاد، وجب على من قرب منهم أن يقوم معهم، كلٌّ على قدر طاقته، فهذا بماله، وهذا بلسانه، وهذا بنفسه وسلاحه. والله أعلم.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين