من روائع البيان في سور القرآن (الحلقة 189)

يقول الله تعالى: ﴿ لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ [البقرة: 225]

السؤال الأول:

قال تعالى في الآية ﴿ بِمَا كَسَبَتۡ وفي آيات أخرى ﴿بِمَا قَدَّمَتۡ [البقرة:95] فما الفرق بين التعبيرين ؟

الجواب:

الآيات التي فيها فعل ﴿قَدَّمَتۡ ليس فيها كسب .

شواهد قرآنية:

 [ البقرة 95ـ النساء 62ـ القصص47ـ الروم36ـ الشورى 48ـ الجمعة 7].

آيات الكسب ﴿بِمَا كَسَبَتۡ يسبقها شيء يدل على الكسب، والكسب هنا هو الكسب غير المشروع.

فمثلاً: في آية الشورى 30 ورد فيها قوله تعالى: ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]

وسبقها في الآية 27 قوله تعالى: ﴿ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ [الشورى:27] وبسط الرزق يدل على الكسب.

شواهد قرآنية:

[البقرة 225ـ الأنعام 70ـ الرعد 33ـ الروم 41ـ غافر17ـ الشورى 30ـ الجاثية 22ـ المدثر 38]. والله أعلم.

السؤال الثاني:

كم مرة وردت كلمة ﴿ حَلِيمٞ في القرآن الكريم ؟

الجواب:

وردت كلمة ﴿ حَلِيمٞ في القرآن 15 مرة، وهي:

آ ـ (11) مرة كاسم من أسماء الله الحسنى:

في الآيات التالية:

1. ﴿ لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ [البقرة:225] .

2. ﴿ وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ [البقرة:235].

3. ﴿ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ [البقرة:263] .

4. ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ [آل عمران:155] .

5. ﴿ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ [النساء:12].

6. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآَنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ [المائدة:101].

7. ﴿ تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ ٱلسَّبۡعُ وَٱلۡأَرۡضُ وَمَن فِيهِنَّۚ وَإِن مِّن شَيۡءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمۡدِهِۦ وَلَٰكِن لَّا تَفۡقَهُونَ تَسۡبِيحَهُمۡۚ إِنَّهُۥ كَانَ حَلِيمًا غَفُورٗا٤٤ [الإسراء:44] .

8. ﴿ لَيُدۡخِلَنَّهُم مُّدۡخَلٗا يَرۡضَوۡنَهُۥۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٞ٥٩ [الحج:59].

9. ﴿ ذَٰلِكَ أَدۡنَىٰٓ أَن تَقَرَّ أَعۡيُنُهُنَّ وَلَا يَحۡزَنَّ وَيَرۡضَيۡنَ بِمَآ ءَاتَيۡتَهُنَّ كُلُّهُنَّۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمۡۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمٗا٥١ [الأحزاب:51].

10. ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يُمۡسِكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ أَن تَزُولَاۚ وَلَئِن زَالَتَآ إِنۡ أَمۡسَكَهُمَا مِنۡ أَحَدٖ مِّنۢ بَعۡدِهِۦٓۚ إِنَّهُۥ كَانَ حَلِيمًا غَفُورٗا٤١ [فاطر:41] .

11. ﴿ إِن تُقۡرِضُواْ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗا يُضَٰعِفۡهُ لَكُمۡ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡۚ وَٱللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ١٧ [التغابن:17] .

 

ب ـ ووردت مرتين في إبراهيم عليه السلام:

1.     ﴿ وَمَا كَانَ ٱسۡتِغۡفَارُ إِبۡرَٰهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوۡعِدَةٖ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُۥٓ أَنَّهُۥ عَدُوّٞ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنۡهُۚ إِنَّ إِبۡرَٰهِيمَ لَأَوَّٰهٌ حَلِيمٞ [التوبة:114] .

2. ﴿ إِنَّ إِبۡرَٰهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّٰهٞ مُّنِيبٞ٧٥ [هود:75] .

ج ـ ووردت مرة في إسماعيل عليه السلام عند البشارة به في قوله تعالى: ﴿ فَبَشَّرۡنَٰهُ بِغُلَٰمٍ حَلِيمٖ١٠١ [الصافات:101] .

د ـ ووردت مرة على لسان قوم شعيب الذين كانوا يستهزئون به في قوله تعالى: ﴿ قَالُواْ يَٰشُعَيۡبُ أَصَلَوٰتُكَ تَأۡمُرُكَ أَن نَّتۡرُكَ مَا يَعۡبُدُ ءَابَآؤُنَآ أَوۡ أَن نَّفۡعَلَ فِيٓ أَمۡوَٰلِنَا مَا نَشَٰٓؤُاْۖ إِنَّكَ لَأَنتَ ٱلۡحَلِيمُ ٱلرَّشِيدُ٨٧ [هود:87] .

والحليم لا يأتي إلا بخير وهو السمت في الخُلُق العربي، فالتزكية جزء من المهمة المحمدية لأنّ عليه يقوم الأمر كله، والرسول يقول: « إنما بُعثت لأتمِّمَ مكارم الأخلاق» [ مجموع فتاوى ابن باز 45 ] فكأنّ هذه المهمة هي المهمة الرئيسة للرسول . وكما أنّ الأشياء توزن والأطوال تُقاس فإن وحدة قياس الأخلاق هي خُلُق رسول الله ؛ لأنه هو المثال البشري المتفوق هيّأه تفوقه أنْ يعيش واحداً فوق الجميع فعاش واحداً بين الجميع.

ونلاحظ في القرآن الكريم أنه عند البشارة بإسماعيل عليه السلام جاءت بقوله تعالى: ﴿ فَبَشَّرۡنَٰهُ بِغُلَٰمٍ حَلِيمٖ١٠١ [الصافات:101] فإسماعيل جدّ العرب حليم، فكأنّ الحلم يتصف به جد العرب، والحِلم كله خير ولا يأتي إلا بخير "كاد الحليم أن يكون نبياً". وفي البشارة بإسحق جدّ اليهود كانت البشارة ﴿ بِغُلَٰمٍ عَلِيمٖ٢٨ [الذاريات:28] .

السؤال الثالث:

قوله تعالى في آية البقرة 225 ﴿غَفُورٌ حَلِيمٞ٢٢٥ وتأتي في آيات أخرى ﴿ غَفُورٞ رَّحِيمٞ فما دلالة كل من التعبيرين في الاختيار القرآني ؟

الجواب:

وردت صيغة ﴿غَفُورٌ حَلِيمٞ٢٢٥ [البقرة:225] أو﴿ حَلِيمًا غَفُورٗا٤٤ [الإسراء:44] في القرآن الكريم في 6 مواضع هي الآيات: [البقرة 225ـ البقرة 235ـ آل عمران 155ـ المائدة 101ـ الإسراء 44ـ فاطر 41] بينما وردت صيغة ﴿ غَفُورٞ رَّحِيمٞ٢٥[النساء: 25] أو ﴿ غَفُورٗا رَّحِيمٗا٢٣ [النساء:23] في 64 موضعاً.

  الحلم هو الأناة والتعقل، والحليم من أسماء الله الحسنى بمعنى تأخير العقوبة عن بعض المستحقين ثم يعذبهم وقد يتجاوز عنهم .

وكلمة (حليم) في الآيات المذكورة أعلاه لا يؤخذ منها التبشير بالرحمة؛ لأنها لو كانت كذلك لجاءت (غفور رحيم)، وإنما جاءت ﴿غَفُورٌ حَلِيمٞ٢٢٥ كتهديد بالعذاب لمن لا يرتدع ويتجاوز الحد .

ومعنى الآية 235 من سورة البقرة: أنه لا يغرنك أيها الزوج حلم الله تعالى عليك فتتمادى في ظلم زوجتك، فإنّ الله مطلع عليك ولا ينسى عملك، وتذكر أنه إذا دعتك قدرتك على ظلم الناس فتذكر قدرة الله عليك .

ولو تأملنا في كل الآيات التي خُتمت بقوله تعالى ﴿غَفُورٌ حَلِيمٞ٢٢٥ نجد أنّ السياق فيها كان تحذيراً للذي لا يرتدع عن تجاوز حدود الله تعالى ولا يخاف بطشه سبحانه ، ومناسبة اقتران وصف( الغفور بالحليم) هنا دون (الرحيم)؛ لأنّ هذه مغفرة لذنب هو من قبيل التقصير في الأدب مع الله.

كما نلاحظ في الآية 235 من سورة البقرة: أنّ الأفعال جاءت فيها بالمضارع؛ ليدل على أن هذه الأمور متجددة الحصول وقد نقع فيها فلننتبه، وهذه الأفعال هي:[ تذكروهن ـ تواعدوهن ـ تقولوا ـ تعزموا ـ يبلغ ـ يعلم ـ احذروه ].

السؤال الرابع:

 ما دلالات هذه الآية ؟

الجواب:

( اللغو ) هو الساقط من القول الذي لا يأبه له ، ولا يُعتد به  ، والمُراد به هو ما يسبق إليه اللسان من غير قصد الحلف ، ومن غير أن يترتب على اليمين إحقاق باطل أو إبطال حق ، وهذا هو المعنى الأول ليمين اللغو ، وهذا لا عتاب  عليكم من الله بسبب أيمانكم من هذا النوع  من اللغو ، نحو : لا والله ـ بلى والله  خلال الحديث .

والمعنى الثاني ليمين اللغو أن يحلف المرء على أمر قد مضى يرى أنه صادق فيه ، ثم يتبين خلافه ، وهذا أيضاً يمين لغو ، مثل أن تحلف أنه معك في جيبك عشرة قروش ثم يتبين أنه معك تسعة مثلاً ،وهذا لا كفارة عليه أيضاً .

2 ـ اليمين المنعقدة هو ما كان عن قصد ، كأنْ يحلف على شيء ألا يفعله في المستقبل ، ثم يخالف ما حلف عليه  ، فهذا عليه كفارة . ( انظر كتب الفقه ) .

3 ـ اليمين الغموس : إذا حلف الإنسان عن شيء وهو يعلم أنه كاذب ، أو حلف يمينا زوراً ، ليقتطع به حق امرىء مسلم ، أو يأخذ ما لا يحل له ، فهذه اليمين من أكبر الكبائر ، وسُميت بالغموس لأنها تغمس صاحبها في النار .ولا كفارة إلا بالتوبة وإرجاع المظالم إلى أهلها .

وباختصار : الأيمَان ثلاثة : يمين لغو ـ ويمين منعقدة ـ ويمين غموس .

والله أعلم .

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين