من دروس رمضان للعلامة الشيخ يوسف القرضاوي

 

 
 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
 
الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وآله الأكرمين، ورضي الله تعالى عن أصحابه أجمعين، وبعد:
فهذه دروس ألقاها فضيلة العلامة الشيخ يوسف القرضاوي في شهر رمضان بعد صلاة التراويح في سنتي 1422و1423هـ، شرح فيها  الشيخ بعض ما يتلوه القارئ في الصلاة ، واستجلى معاني الآيات وعبرها ، وربطها بواقع المسلمين وأحوالهم، وهو تفسير شفوي لم يقدِّمه الشيخ مكتوبا ، وهو كذلك تفسير مسجدي .
وقد قام الأخ الشيخ عبد الله السكرمي بتفريغ هذه الدروس ،وقام بمراجعتها وتصحيحها الشيخ مجد مكي ، ورأينا أن نقدِّم هذه الدروس في هذا الشهر المبارك ، كما ألقاها فضيلة الشيخ مع بعض التعديلات اليسيرة ، لتكون زاداً علميا نافعا، وأثراً طيبا مباركا، وجليسا صالحا كافيا ، وأنيسا ناصحا شافيا من آثار الشيخ حفظه في هذا الشهر الكريم .
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين .
وكتبه وراجعه : مجد مكي
الخميس 25 شعبان 1434
 

 

 
الدرس الأول في رمضان1422هـ
وقفات مع بداية سورة البقرة
 
 
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأزكى صلوات الله وتسليماته، على من أرسله ربه رحمة للعالمين، وحجة على الناس أجمعين، سيدنا وإمامنا، وأسوتنا وقائد دربنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه، الذين {آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الأعراف:157].
ورضي الله عمن دعا بدعوته، واهتدى بسنته، وجاهد جهاده إلى يوم الدين. ثم أما بعد..
فيا أيها الإخوة والأخوات:
فخير ما أحييكم به أيها الإخوة والأخوات، تحية الإسلام، تحية من عند الله مباركة طيبة، فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد..
سرعة مرور الأيام :
فما أسرع ما تمر الأيام، إنها تمرُّ مرَّ السحاب، فبالأمس القريب كنا في هذا المسجد، في رمضان الماضي، وكم بين رمضان الماضي ورمضان الحاضر، إنها أحد عشر شهرا، ما أسرع ما مرت، مرت من عمرنا، محسوبة لنا أو علينا.
استعراض أحوال المسلمين :
في هذه الأشهر حدثت للمسلمين أحداث، ووقعت بهم محن شداد، ولا زالت هذه المحن الشداد، تطل علينا بوجهها الكئيب، وتؤثر في حياتنا، لا زلنا نشهد أحداثا جساما، ولا زلنا نرى المسلمين، يقَتَّلون ويذَبحون ويضطهدون، ويمتحنون، في أقطار شتى، من أرض الإسلام، في فلسطين أرض النبوات والمقدسات، أرض المسجد الأقصى، في أفغانستان أرض الجهاد والمجاهدين، في كشمير التي ابتلي أهلها بما ابتلوا به من سنين طوال، في الشيشان، في الفلبين، في الصومال، في بلاد شتى، يشكو المسلمون همومهم ويبسطون أيديهم إلى ربهم، ضارعين أن يكشف عنهم الغمة، وأن يُفرج الكربة، ولن يفرِّج الكرب غير الله تبارك وتعالى.
تقوية الصلة بالله عز وجل:
نستقبل رمضان في هذه الظروف الحالكة، وليس لنا إلا الله، {لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ}[النجم:58]، فعلينا أن نقوي الصلة بربنا عز وجل، أن نعقد صلحا مع الله تبارك وتعالى.
من كان مخاصما ربه في الأيام الماضية، فعليه أن يصطلح على الله، ففي ساعات الشدائد لا يوجد إلا الله، قد يغفل الإنسان في ساعات العافية، أما ساعات الشدة، فليس هناك إلا باب واحد يجب أن يقرعه الناس، وهو باب رب العالمين، ونحن في شدة، وعلينا أن نقرع هذا الباب، الذي لا يغلق أبدا.
وفي آيات الصيام يقول الله تبارك وتعالى ضمن أحكام هذه الآيات: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}[البقرة:186].
نحن المسلمين نملك من وسائل القوة، ومن مصادر القوة ما لا يملك غيرنا، نملك هذه النفحات التي يتجلى علينا بها ربنا ما بين الحين والحين، ومنها: نفحات رمضان، شهر الصيام والقيام. ومنها: هذا القرآن العظيم، الذي نأوي إلى ظله، نقرأه ونستمع إليه، فنجد فيه العجب العجاب، نجد فيه ما ينير العقول، وما يوقظ القلوب، وما يهز المشاعر، وما يضيء لنا الطريق، فعندنا نحن المسلمين من مصادر القوة ما ليس عند غيرنا.
عندنا هذا الإيمان، إيمان الإسلام الذي نعتز به، أن الله أكرمنا بهذا الدين، وأتم علينا به النعمة، وأكمل المنة، {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}.
يا أيها الإخوة:
جرت عادتنا في كل رمضان، أن نقف وقفات مع بعض الآيات من كتاب الله عز وجل، نستضيء بها في ظلمات حياتنا، ونأخذ منها القبس والعبرة والعظة، وهذا القرآن لا تنقضي عجائبه، ولا تفنى عظاته، ولا عبره أبدا.
الأحرف النورانيَّة في القرآن العظيم :
نقف في هذه الليلة عند آيات من هذه السورة، التي هي أطول سور القرآن، وهي سورة (البقرة)، بدأها الله عز وجل بقوله:
{ آلم (1)}
{آلم} بداية عجيبة لم تعهدها العرب، حينما نزل عليهم القرآن، لم يعهدوا أن تُقرأ عليهم الحروف بهذه الطريقة العجيبة، {الم}، {آلر}، {المص}، {كهيعص}، {طسم}، {طس}، {حم * عسق}، مقدمة غريبة، تثير السامع، وتنبِّهه وتجذبه، وتلفت انتباهه ونظره.
ولكن ما معنى (الم)؟! بعض العلماء قال: لكل كتاب سر، وسر القرآن في هذه الحروف المعجمة في أوائل السور، ولذلك، كثيرا ما نقرأ في بعض التفاسير: (الم: الله أعلم بمراده)، ولذلك لم يبحثوا عنها.
والبعض الآخر قال: لا شيء في القرآن غير معلوم، فقد سماه الله كتابا مبينا:{ تلك آيات الكتاب المبين} [ يوسف:2]، { والكتاب المبين} [الزخرف:2، والدخان: 3]. ولا ينزل الله شيئا غير مفهوم، ثم اختلفوا في بيان المراد منها.
فقال بعضهم: أسماء للسور. ولكنك تجد في القرآن ست سور مثلا، تبدأ بـ(ألم)، البقرة، وآل عمران، والعنكبوت، والروم، ولقمان، والسجدة. فهل نستطيع أن نسمِّي (البقرة) بـ(الم)، وآل عمران، والعنكبوت..الخ، كلها تحمل نفس الاسم؟!
المهم: أن الأقوال كثرت، وأشهر الأقوال التي ارتضاها الكثيرون، أن هذه الأحرف إشارة إلى الإعجاز القرآني، فهذا القرآن أتى إلى العرب فتحدَّاهم، أن يأتوا بقرآن مثله، {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ}[الطور:34]، فلم يستطيعوا، فتنزَّل معهم، إلى أن طلب منهم أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات، فعجزوا، فتحداهم بأن يأتوا بسورة من مثله، وقد سمعنا الآن الآية في الصلاة: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[البقرة:23]، هاتوا أعوانكم وأنصاركم وشركاءكم، وكل من تريدون، إن كنتم صادقين.
حتى أصغر سورة في القرآن، الكوثر، الإخلاص، العصر.. لم يستطيعوا أن يأتوا بمثلها. فلماذا هذا العجز؟ كأن هذه الآيات تقول: إن هذا القرآن هو من جنس الحروف التي تنطقون بها في كلامكم المعتاد، لأنه عبارة عن [أ، ل، م]،[ ك، هـ، ي، ع، ص]..الخ، فليس غريبا عن لغتكم، هو من جنس هذه اللغة، وأحرفه من أحرفها، ومع هذا عجزتم عن الإتيان بشيء من مثله.
ولهذا عادة ما تأتي بعد هذه الأحرف المقطعة، إشارة إلى القرآن، مثل سورة البقرة هذه، {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)}، وكما في سورة الأعراف: {المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)}، ويونس: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1)}، وهود: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)}، ويوسف: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1)}، والرعد: {المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ}، وإبراهيم: {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}...الخ هذه السور التي بدأت بهذه الأحرف.
ولكني أريد أن أقول: حتى ولو كان هذا القول صحيحا وراجحا، أنه إشارة إلى التحدي بالقرآن، وأنه من جنس كلامكم، ومع هذا عجزوا وانقطعوا، وحقَّ عليهم قول الله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}[الإسراء:88].
ولكن يبقى الإشكال: لماذا قال في هذه السورة: {الم} وفي أخرى {الر}، وفي أخرى {المر}؟ يبقى أن هناك سراً لا يعلمه إلا الله، وهو لماذا خص هذه السورة بـ{الم}، والأخرى بـ{طسم}، والأخرى بـ{حم}؟ يبقى العقل البشري حائر امام ذلك، ولذلك نقول: إنه سر من أسرار الله تبارك وتعالى.
{ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)}
{ذَلِكَ}: إشارة إلى هذا القرآن الذي يتلوه محمد، ويقول علماء اللغة، ذلك: إشارة إلى البعيد، والبعد تارة يكون بُعدا ماديا، وتارة يكون بعدا معنويا، فذلك الكتاب: البعد هنا بعد معنوي، بعد المقام، فهو رفيع المقام، رفيع المستوى.
هل الكتاب غير القرآن والذكر والفرقان ؟
{الْكِتَابُ}: هو القرآن، هذا الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، يسمى قرآنا لأنه يُقرأ، ويسمَّى كتابا، لأنه يكتب، فالكتاب هو القرآن، وهو أيضا: الذكر؛ لأنه يُذكِّر، كما في قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}.
الرد على محمد شحرور في قراءته المعاصرة :
 ولكن مما أتتنا به الأيام، والأيام تأتي بالعجائب، أن ظهر مهندس في سوريا، عمل كتابا، سماه: " الكتاب والقرآن : قراءة معاصرة " يقول فيه: إن القرآن شيء، والكتاب شيء، والذكر شيء، والفرقان شيء، لأن اللغة العربية ليس فيها لفظة ترادف لفظة، وهذا الأمر خلافي، والعجيب أنه بنى كتابه على هذا الأمر الخلافي، ولو أننا سلمنا بذلك، فهذا شيء مفهوم، ولكن (الماصَدَق) واحد، فعلماء المنطق يقولون: هناك شيء (المفهوم)، وهناك (الماصَدَق)، فقد يختلف المفهوم، والذي يصدق عليه هذا المفهوم شيء واحد، مثل (الحسام): هو اسم من أسماء السيف، واسمه السيف، والبتار، والمهنَّد،والصارم وغيرها، وكل اسم من هذه الأسماء له معنى، فالمُهنَّد: من الهند، والبتار: القاطع..الخ، هذه مفاهيم، والـ(ما صدَق)-أي الشيء الذي تصدق عليه- هو شيء واحد.
نقول: الشيخ، العالم، الداعية، العلامة، كلها مفاهيم مختلفة، وتصدق على شخص واحد وموصوف واحد، فلا دخل لقضية الترادف بين الألفاظ هنا.
هذا الشخص يرى أن الكتاب ليس هو القرآن، والفرقان ليس هو القرآن، ويضحك على الناس ببعض الأشياء دون استقصاء، فهو لا يتتبع القرآن.
 وأضرب لكم مثلا: ففي سياق واحد، جاءت هذه المعاني للقرآن، ففي سورة فصِّلت يقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ – أي : الذكر -  لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ * مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ * وَلَوْ جَعَلْنَاهُ – أي: الكتاب والذكر - قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ}[الآيات:41-44]. يعني الذكر الكتاب وهو القرآن، ولكن هؤلاء الناس يريدون تضليل الأمة، والعجيب –أيها الإخوة- أن هذه الكتب تطبع طبعات جميلة، وغالية جدا، وتباع رخيصة جدا، وتُهدى للناس بالمئات، والسؤال: من وراء هذا؟ ومن يروج لهذه البضاعة المسمومة، والملوثة؟ إنها قوى معادية للإسلام.
ترجيح الوقف عند قوله تعالى:{ لَا رَيْبَ فِيهِ }:
 {لَا رَيْبَ فِيهِ}: بعض القراء يقف عند {لَا رَيْبَ }، ثم يقول: {فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)}. وأنا لا أُحبذ هذا الوقف، فالبدء بقول الله: { هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}. أبلغ من البدء بقول الله: {فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)}لأن الأول يعني أن القرآن كله هدى للمتقين.
وحينما يقف الإنسان على {لَا رَيْبَ فِيهِ}: فإنه بذلك ينفي عنه الريب، أما إن وقف القارئ على { رَيْبَ } لا ينفيه.
ولذلك فالأقوى في الوقف، أن تقول: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} لا يُشك فيه، لا مجال للشك فيه، والأدلة على نسبة صحته إلى الله، أكبر من أن تحصى.
القرآن هدى للمتقين وهدى للناس :
{هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}: كما جاء في نفس السورة، {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}، وهنا يقول :{هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} ، وكأن القرآن يقول: المتقون هم الناس، ومن ليس من أهل التقوى، فليس من الناس، ولايستحق أن ينسب إلى البشر، فالفجار ليسوا أناسا، انسبهم إلى الحيوانات، إلى الجمادات، إلى البهائم، لكنهم ليسوا ناسا، ولهذا حينما يقول الله: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} كأنه يقول لهم: أنتم الناس أيها الأتقياء.
شوقي يقول: أنتم الناس أيها الشعراء
وأنا أقول: أنتم الناس أيها الأتقياء.
المنتفعون بالقرآن هم المتقون:
وذلك لأن المتقين هم الذين ينتفعون بهذا القرآن، فليس كل الناس ينتفعون بالقرآن، وإنما ينتفع به أهل التقوى، تنتفع عقولهم به، وتستضيء قلوبهم بهذا القرآن، وتتحرك عزائمهم بهذا القرآن.
{ اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ}[الزمر:23].
 كلمة التقوى والمتقين، في سورة البقرة:
وكلمة التقوى والمتقين، في سورة البقرة، كثيرة جدا، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)}، {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)}، {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)}، {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241)}، {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)} في أحكام الأسرة، في الأحكام الجنائيَّة، في كل الأحكام، يأتي الأمر بتقوى الله، فهي ملاك كل الأمور، ولا تنضبط الحياة بدونها، يمكن أن يكون هناك قوانين، ولكن ما أكثر ما يتحايل الناس على القوانين. وقد قال أحد إخوتنا القضاة: القانون حمار، الناس كلها تضحك عليه.
وإذا ضحك الناس وتحايلوا على القانون، فهل يستطيعون الضحك على الله؟! لا يمكن. ولهذا: لن يصلح القانون فينا رادعا، حتى نكون أصحاب ضمائر تردعنا، ولذلك يوصي الله كثيرا بالتقوى، فهي وراء خيرات الدنيا، وخيرات الآخرة.
ولعل لنا حديثا إن شاء الله عن التقوى فيما يأتي في نظراتنا في كتاب الله عز وجل.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يتقبل منا، وأن يقبلنا، وأن يجعل يومنا خيرا من أمسنا، وغدنا خيرا من يومنا، إنه سميع قريب.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
والسلام عليكم ورحمة الله.


 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين