من خلق المسلم: الرفق-8-

 

 

 الرفق في حياة النبي صلى الله عليه وسلم:

 

9- الرفق بالمتعلم والحنوِّ عليه:

وصف صلى الله عليه وسلم نفسه بأنه بمنزلة الوالد لأولاده.

 عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم " إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم...".

رواه أبو داود( 8 ) ،و النسائي( 40) من طريق محمد بن عجلان, ورواه أحمد ( 7368 ) من نفس الطريق بلفظ : "إنما أنا لكم مثل الوالد لولده .."،وكذا رواه ابن ماجه  (313 ) ، ورواه ابن خزيمة ( 80 ) ،ورواه الدارمي ( 701 ) أيضاً ،

وفي هذا الحديث بيان كمال وحسن خلقه صلى الله عليه وسلم، ورفقه بأمته، وحرصه على إفادتها والنصح لها، فهو أنصح الناس للناس، وهو أكمل الناس نصحاً، وأكملهم بياناً، وأفصحهم لساناً عليه الصلاة والسلام.

قال المناوي : ( إنما أنا لكم ) اللام للأجل أي: لأجلكم ( بمنزلة الوالد ) في الشفقة والحنو لا في الرتبة والعلو وفي تعليم ما لا بد منه فكما يعلم الأب ولده الأدب فأنا ( أعلمكم ) ما لكم وعليكم وأبو الإفادة أقوى من أبي الولادة ،وهو الذي أنقذنا الله به من ظلمة الجهل إلى نور الإيمان. فيض القدير [2 /570].

وكان النبي صلى الله عليه وسلم أرفق الناس بالمتعلمين، وأبعدهم عن التشديد والتعسير، والفظاظة والغلظة، وهذا ما نوَّه به القرآن من أخلاقه صلى الله عليه وسلم: [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ] {آل عمران:159}.

وكان الرجل يأتي من البادية ويخاطبه باسمه مجرَّداً، ويناديه من بُعْد، ويكلمه بجفوة، وأحياناً يستوقفه في الطريق، فيسع هذا كله لحلمه وحسن خلقه، ويجيبه عما سأل وأكثر مما سأل.

روى البخاري (1396)،ومسلم (13) عن أبي أيوبرضي الله عنه: أنَّ أعرابيا عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في سفره، فأخذ بخطام ناقته أو بزمامها، ثم قال: يا رسول الله أو يا محمد، أخبرني بما يقرِّبني من الجنة، ويباعدني عن النار؟ قال: فكفَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، ثم نظر في أصحابه، ثم قال: لقد هدي، قال: كيف قلت؟ فأعادها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصلُ الرحم).

10-الإشفاق على المخطئ:

ويتجلى الرفق كل الرفق في الإشفاق على المخطئ، فالخطأ لا يوجب مقابلة المخطئ بالعنف والقهر، أو التشنيع عليه أو السخرية منه، فإن هذا قد يؤدي إلى إذلال نفسيته وتحطيم شخصيته، أو يؤدي إلى الإصرار على الخطأ، والتمادي في الباطل والتحدي للحق، دفاعاً عن نفسه وتسويفاً للغلط.

وأعظم نموذج للرفق بالمخطئين إذا أخطؤوا: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو خير من يقدِّر الظروف، ويراعي الأحوال، و يُسَعُ الناس جميعاً، حتى ذلك الأعرابي الجلف الذي لم يخجل أن يبول، في ركن من أركان المسجد أمام الناس، فلم يغلظ عليه، وقابله بما ينبغي لمثله من الرفق واللين.

روى الإمام أحمد (22211 ) وقال مخرجوه: إسناده صحيح، والطبراني في المعجم الكبير ( 8/162 ) عن أبي أمامة رضي الله عنه أن فتىً من قريش جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ائذن لي في الزنى؟ فأقبل القوم عليه وجروه، فقال صلى الله عليه وسلم: ادنه، فدنا، فقال: أتحبه لأمك؟ قال: لا والله جعلني الله فداك، قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم، ثم قال له مثل ذلك في ابنته وأخته وعمته وخالته، ثم وضع يده عليه وقال: (اللهم اغفر ذنبه، وطهِّر قلبه، حصِّن فرجه) فلم يكن بعد ذلك يلتفت إلى شيء.

 فهذا شاب عارم الشهوة ثائر الغريزة، صريح في التعبير عن نوازعه، ورغم طلبه الذي أثار الحاضرين عليه، لم يكن منه صلى الله عليه وسلم إلا أن لقيه بهذا الرفق العجيب والحوار الهادئ، ثم أنهى هذا الحوار بلمسة حنان على صدر الفتى المتوقِّد، ومع اللمسة دعوات خالصات لله تعالى أن يغفر للفتى و يطهره ويحصنه، فإذا هو يخرج من مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم كأنما كان هذا اللقاء لنار شهوته برداً وسلاماً.

 

لقد انتفض الصحابة عند سماع الاستئذان في الزنا من الشاب، فزجروه: "مه.. مه"، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم عالجه بطريقة أخرى، وذلك بيان مفاسد مطلبه، وسوء عواقبه، وفي هذا إرشاد للمعلمين والمربين والدعاة باللطف بالجاهل قبل التعليم، فذلك أنفع له من التعنيف، ثم لا وجه للتعنيف لمن لا يعلم، فالإقناع برفق وحكمة هو الباب الصحيح لصرف العقول والقلوب عن المخالفات ..

ولم ينظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك الشاب على أنه فقد الحياء والخير، بل تفهم حقيقة ما بداخله من شهوة، ولمس جانب الخير فيه، فتعامل معه صلى الله عليه وسلم بمنطق الإقناع العقلي مع الشفقة والحب، فأثابه إلى رشده، وأرجعه إلى طريق العفة والاستقامة، حتى أصبح رافضا للرذيلة، كارها لها.

وقد احتوى هذا الموقف على الأسلوب العاطفي في الدعوة والتربية من قِبَل النبي  صلى الله عليه وسلم  مع هذا الشاب، وظهر ذلك في": ادنه" ، "فدنا منه قريبا" ، "فجلس، فوضع يده عليه ، ودعا له بقوله: "اللَّهمّ اغفر ذنبه وطهر قلبه، وحصن فرجه"، ولا شك أن الحديث العاطفي في مواطن ومواقف كثيرة يكون مفتاحا مهما للإقناع .

 

ولم يكتف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالإقناع بالأسلوب العاطفي، بل ضمَّ إليه الإقناع بالأسلوب العقلي بقوله: ( أتحبه لأمك؟ أفتحبه لابنتك؟ أفتحبه لأختك؟ أفتحبه لعمتك؟ أفتحبه لخالتك ، وكان يكفي قوله": أتحبه لأمك" ، لكنه عَدَّدَ محارمه زيادة في الإقناع، ودلالة على أن ما قد يأتي من النساء لا تخلو أن تكون أما، أو بنتاً، أو عمة، أو خالة لأحد من الناس .

وأولى المخطئين بالشفقة : من كان خطؤه عن جهل أو غفلة أو ضعف، وبخاصة من أخطأ لأول مرة، مثل الأعرابي والشاب القرشي.

ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يسع بحلمه ورفقه من أقرَّ على الخطأ والمعصية نتيجة ضعف إرادته، وغلبة عادته، استبقاء له في دائرة الإيمان، وتنبيهاً له بحسن المعاملة على سوء صنيعه، عسى أن يستيقظ ضميره، فيتوب من زلَّته، وينهض من سقطته.

هذا الصحابي الذي ابتلي بالخمر وأدمنها، وأُتي به عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من مرة شارباً فيضرب ويعاقب، ثم يغلبه إدمانه وشيطانه، فيعود إلى الشرب، ثم يؤتي به، ويضرب ويعاقب وهكذا عدة مرات.

حتى قال بعض الصحابة يوماً وقد جيء به شارباً: ما له لعنه الله؟ ما أكثر ما يؤتى به. وهنا تتجلى الرحمة المحمدية والرفق النبوي الرفيع فيقول: (لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم) رواه البخاري  (6781). 

عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أُتِيَ برجل قد شرب الخمر، فقال: اضربوه، فمنا الضارب بيده ، والضارب بثوبه، والضارب بنعله، ثم قال: بكتوه، فأقبلوا عليه يقولون: ما اتقيت الله ؟ ! ما خشيت الله ؟ ! وما استحييت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ ! ، فقال بعض القوم: أخزاك الله ! قال: لا تقولوا هكذا ! لا تعينوا عليه الشيطان، ولكن قولوا: اللهمَّ اغفر له، اللهم ارحمه) رواه أبو داود.

 وفي رواية عبد الرزاق (13552 ) عن زيد بن أسلم : (لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله).

فما أعظم هذا القلب الكبير كيف وسع هذا الإنسان، وأحسن الظن به، رغم تلطخه بالإثم، ومقارفته لأمِّ الخبائث، فوصفه بأنه: (يحب الله ورسوله). 

إن لعن الناس لا يصلحهم ولا يقربهم من الخير، بل يبعدهم عنه، وأولى من هذا الموقف السلبي أن تتقدم من أخيك العاصي، فتدعه أو تدعو له، ولا تدعه فريسة للشيطان، وقد قال الحكيم: بدل أن تلعن الظلام أضي شمعة تنير الطريق. 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين