من خلق المسلم: الرفق -6-

الرفق في حياة النبي صلى الله عليه وسلم:

 المتأمل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم يَعْجَب من فقهه في معاملة النفوس، وحكمته في تربيتها، ورفقه في إصلاح أخطائها، وعلاج ما بها من خلل، يظهر ذلك في مواقفه التربوية الكثيرة والجديرة بالوقوف معها لتأملها والاستفادة منها في واقعنا ومناهجنا التربوية.

لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم أعظم أسوة حسنة في الرفق وسماحة النفس ولين الطبع وسهولة المعاملة... ولم يكن صلوات الله وسلامه عليه فظاً ولا غليظاً، ولذلك أثنى الله عز وجل عليه بالرفق ولين الجانب، ونفى عنه الفظاظة والغلظة، فقال تعالى: [وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ] {آل عمران:159}.

و وصف الله رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: [لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ] {التوبة:128}.

 

قال الشنقيطي : هذه الآية الكريمة تدل على أن بعث هذا الرسول الذي هو من أنفسنا الذي هو متصف بهذه الصفات المشعرة بغاية الكمال، وغاية شفقته علينا هو أعظم مِنَن الله تعالى، وأجزل نعمه علينا.[أضواء البيان 2/ 149]

وقال تعالى : ( فبما رحمة من الله لنت لهم ) [آل عمران : 159 ] أي :برحمة جبلَك عليها وفَطرك بها فكنت لهم لَيِّناً . 

قلت : يعني أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) فُطر على خُلق الرحمة في جميع أحوال معاملته الأمة لتتكون مناسبة بين روحه الزكية وبين ما يلقى إليه من الوحي بشريعته التي هي رحمة حتى يكون تلقيه الشريعة عن انشراح نفس أن يجد ما يوحَى به إليه ملائماً رغبتَه وخلقه .[التحرير والتنوير ـ الطبعة التونسية 17/ 167].

لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعيش الرفق ويتمثل به في سائر أحواله وشؤون حياته كما قالت عائشة رضي الله عنها:  "ما خيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين قط إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثماً فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه." متفق عليه.

 وقد ثبت ذلك عنه في مجالات كثيرة منها:

 

1-  الرفق مع النساء:

روى البخاري بسنده ‏عَنْ ‏أَبِي قِلَابَةَ ‏عَنْ ‏أَنَسٍ ‏رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ‏أَنَّ النَّبِيَّ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏كَانَ فِي سَفَرٍ وَكَانَ غُلَامٌ يَحْدُو بِهِنَّ يُقَالُ لَهُ ‏أَنْجَشَةُ، ‏فَقَالَ النَّبِيُّ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏:رُوَيْدَكَ يَا ‏أَنْجَشَةُ ‏سَوْقَكَ بِالْقَوَارِيرِ، ‏قَالَ ‏أَبُو قِلَابَةَ ‏يَعْنِي النِّسَاءَ... قال أبو عمر في "الاستيعاب" أنجشة العبد الأسود كان يسوق أو يقود بنساء النبي صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع، وكان حسن الصوت، وكان إذا حدا اعتنقت الإبل فقال :يا أنجشة رويدك بالقوارير. فخاف صلى الله عليه وآله وسلم أن يزعج انبعاثُ الناقة للمشي النساء اللواتي على ظهورها، وتكلم هو بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه شفقة بهذا المخلوق الضعيف الذي قد يضر به هز الناقة أو يزعجه في هودجه.

 أما القوارير، فهنَّ اللواتي تقر بهنَّ أعيننا، وتسعد بهن أنفسنا، أمهات وأخوات وزوجات، تكسرهن الكلمة، وتبكيهن النظرة، يقتتن المشاعر، ويعشن على الحب، سماهنَّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قواريرا، تشبيها لهن بقوارير الزجاج الرقيقة، التي تحفظ بعناية، لأنها قد تكسر مع أي ضربة، لذا أوصانا بهنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقال فيما أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((استوصوا بالنساء فإن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج ما في الضلع أعلاه فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج فاستوصوا بالنساء)). وفي رواية لمسلم: "إن المرأة خلقت من ضلع، لن تستقيم لك على طريقة، فإن استمتعت بها استمتعت بها وفيها عوج، وإن ذهبت تقيمها كسرتها وكسرها طلاقها".

فالرفق مع المرأة أن يكون الرجل سلسا لينا، يعفو ويصفح، {أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: 22].

 

فإن عفوك عنها من خير ما تتقرب إلى الله به، فيعفو عنك كما عفوت عنها، قال تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40].

 

الرفق أن تجعل العقاب آخر الحلول، ولا تقول لها لشيء فعلته :لم فعلته ؟ولا لشيء لم تفعله: لم لم تفعليه؟ وإنما تقول: قدر الله وما شاء فعل، وتنصح وتبين، وتربي وتعلم، وتجعل أعصابك في قبضة عقلك، وتجعل الدعاء لها بديلا عن الدعاء عليها، وتسأل الله في صلاتك أن يصلح لك زوجك، ويمتن عليك بهذه النعمة العظيمة التي امتن بها على أيوب عليه السلام في قوله: (وأصلحنا له زوجه) الأنبياء:90.، فهذا دأب عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا، والذين يقولون: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان: 74].

 

لو استطعت أن لا تغضب في توافه الحياة وتفاصيلها التي قدرها الله فافعل، واجعل نصب عينيك نصيحة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث يقول لمن سأله النصيحة، وقال له أوصني، فقال له: ((لا تغضب، لا تغضب، لا تغضب)) والحديث في البخاري.

 

الرفق مع المرأة أن تضع القانون في البيت وتقبل بنسبة الثلث من التجاوزات والتهاونات، والثلث قليل في جانب المرأة التي لا تستقيم لك على طريقة كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بل هي ما بين عقلها وهواها حائرة، ترى الشيء فتريده ولا تستطيعه، بما ركب الله فيها من قوى العاطفة التي تغلب عندها قوى العقل.

 

فرويدك في التعامل مع المرأة، وفي تقويمها وتربيتها فهي الضلع الأعوج الذي لا تستطيع العيش بدونه، ولا تحاول أن تقيمه لأنك إن جئت تقيمه كسرته، وكسرها طلاقها.

 

رويدك يا من تجعل المرأة خادمة في بيتك لا حديث معها إلا الأوامر والنواهي، ولم وكيف؟ تدخل عابسا وتخرج مكشرا، تظن أنك بذلك تحفظ هيبتك، وما هي بهيبة، بل هي الشؤم والخيبة، وأي هيبة وأي خير في الابتعاد عن سنة نبيك وحبيبك صلى الله عليه وسلم الذي كان أكثر الناس تبسما.

 

رويدك يا من تنهال على زوجتك سبا وشتما لأيِّ سبب ولأي خطأ، فلو عاملك ربك كما تعاملها لأهلكك ولتبرك تتبيرا.

 

رويدك يا من تضيع حقوق زوجتك، وتتركها الليالي تلو الليالي، لا أنيس لها إلا الليل الموحش، والفراش البارد، وأنت بين أصحابك وأترابك، تميل مع رياح المرح يمنة ويسرة.

 

رويدك يا من تحملها على عبادتك، وترهقها لتصل إلى زهدك، فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوقظ عائشة لتصلي معه صلاته من الليل، بل كان إذا أراد أن يسجد غمزها فجمعت رجلها حتى إذا قام مدتها، فوريدك في أهل بيتك، لا تنفرهم من الطاعة، ولا تحملهم على العزائم، فلهن في الرخص ما يناسب أنوثتهن وضعفهن.

 

رويدك يا من جعلت حياتها بين أربعة جدران، وحكمت عليها بالسجن المؤبد في زنزانة الزوجية، وكبت فيها كل شيء جميل، رويدك فأنت الجاني على نفسك، وأنت أول الخاسرين، فإنك متى قتلت في المرأة حيويتها وانطلاقتها وعفويتها، لم يبق لك منها إلا جسد بال حزين، وروح كئيبة تغطيها ابتسامة جافة.

 

أما أنت،،،  يا من جعلت عصاك على عاتقك، وقدمت شرك وأخرت خيرك، واستخدمت قوتك التي وهبك الله للدفاع عن البيضة وحماية الحوزة، في الفتك بالبيضة، وتعذيب هذا الإنسان الذي لا يملك حولا ولا قوة، فلا أقول لك رويدا، بل سحقا لك وبعدا، قال تعالى: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [النساء:34].

 

وفي علوه ما يردع طغيانك وعلوك، ويكفيك قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيك وفيمن يضربون زوجاتهم: ((إنهم ليسوا بخياركم))؛ النسائي في الكبرى.

 

ثم ألا تستحي من ربك الذي صور هذه المرأة وخلقها في أحسن تقويم، ثم رعاها بنعمه وحفظها بحفظه، إلى أن صارت متعة لك إلى حين، فجعلت تهوي عليها بسوطك هوي الحمير، وتميل عليها ضربا باليمين، وكأنها أصنام النمرود! تكسر منها العظام وتجرح منها الأبشار! تضربها ضرب العبد، ثم تأتي إليها آخر النهار، عدواني بالنهار شهواني بالليل!

 

أتضربها والله يقول: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19]!! أتضربها وهي التي تحفظك في غيبتك، وتخدمك في حضرتك، وهي التي تربي ولدك، ومنها يتغذى الحنان والعاطفة!!

 

صحيح أن الإسلام شرع للرجل أن يضرب امرأته إن هي لم ينفع معها وعظ ولا هجران، لكن الشرع رفق بها حتى في هذا الضرب، وحدده بأن جعله ضربا غير مبرح، وجعله آخر الحلول، بل نهى عنه في مواضع كثيرة وجعله ضرورة يلجأ إليها من نشزت زوجته عن طوعه، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد ثم يضاجعها في آخر اليوم))؛ البخاري.

 

وعندما طاف بآل رسول الله صلى الله عليه و سلم نساء كثير يشتكين أزواجهن قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قد طاف بآل محمد صلى الله عليه و سلم نساء كثير يشتكين أزواجهن ليس أولئك بخياركم) النسائي في الكبرى.

 

ولا يمكن أن يكون أولئك بخيارنا، لأن خيار رجالنا هم خيارهم لأهليهم وأزواجهم، قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي)؛ الترمذي.

 

لقد خلق الله الرجل والمرأة ليبلو بعضهم ببعض، وجعل بينهما ما تجر إليه الفطرة من المودة والرحمة، فرويدك في التعامل معها والرفق بها، تكون لك بابا مشرعا إلى رضوان الله، فإن كرهتها فعسى أن تكرهها ويجعل الله لك فيها خيرا كثيرا. من مقالة: رويدك أنجشة لحامد الإدريسي .

 

قالت عائشة رضي الله عنها: ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قط بيده ولا امرأة ولا خادماً إلا أن يجاهد في سبيل الله وما نيل شيء منه قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيء من محارم الله تعالى فينتقم لله تعالى. رواه مسلم. 

وكانت زوجه عائشة إذا هويت شيئاً أتبعها إيّاه ما لم يكن إثماً، وقد أذن لها صلى الله عليه وسلم بالنظر إلى أهل الحبشة وهم يلعبون، وأذن لها بالفرح واللعب يوم العيد.

 

2-  الرفق مع الخادم:

عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المَدِينَةَ لَيْسَ لَهُ خَادِمٌ، فَأَخَذَ أَبُو طَلْحَةَ_ زوج أم أنس _ بِيَدِي، فَانْطَلَقَ بِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَنَسًا غُلاَمٌ كَيِّسٌ فَلْيَخْدُمْكَ، قَالَ: "فَخَدَمْتُهُ فِي السَّفَرِ وَالحَضَرِ، مَا قَالَ لِي لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ لِمَ صَنَعْتَ هَذَا هَكَذَا؟ وَلاَ لِشَيْءٍ لَمْ أَصْنَعْهُ لِمَ لَمْ تَصْنَعْ هَذَا هَكَذَا"  البخاري 2768. كشف لنا الصحابي أنس جانبًا من حياة النبي  صلى الله عليه وسلم ، وسلوكًا رائعًا في تعامله عليه الصلاة والسلام. وكان أنس في العاشرة من عمره، يوم خدم رسول الله .

 

3- الرفق مع الأطفال: 

عن عائشة رَضِيَ اللهُ عَنْهُا قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤتى بالصبيان فيبرك عليهم ويحنكهم ويدعو لهم." أخرجه البخاري . 

وعن أنس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزور الأنصار ويسلم على صبيانهم ويمسح على رؤوسهم".رواه النسائي.

 وكان دائماً يقبل الحسن والحسين ويلاعبهما. وحمل أمامة بنت زينب في الصلاة رفقاً بها.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين