من خلق المسلم: الرفق -4-

الرفق في الدعوة إلى الله تعالى:

إنَّ الدعوة إلى الله عزَّ وجل هي محاولة للدخول إلى أعماق الإنسان، لتجعل من المدعوِّ شخصاً ربانياً في مفاهيمه ومشاعره وسلوكه، والدعوة الربَّانية الحقة تبدِّل كيانه كله، وتنشء منه خلقاً آخر، فكراً وشعوراً وإرادة، كما أنها تهزُّ كيان الجماعة هَزَّاً، لتغيّر عقائدها المتوارثة، وتقاليدها الراسخة وأخلاقها المتعارفة، وأنظمتها السائدة.

وهذا كله لا يمكن أن يتمّ إلا بالحكمة وحسن التأِّتِّي للأمور، والمعرفة بطبيعة هذا الإنسان، وأنه أكثر شيء جَدلاً، فلابد من الترفق في الدخول إلى عقله، والتسلل إلى قلبه حتى تلين من شدته، ونكفكف من جموده، وتطامن من كبرائه.

وهذا ما قصَّه علينا القرآن من مسالك الأنبياء والدعاة في الدعوة إلى الله كما نرى في دعوة إبراهيم لأبيه وقومه، ودعوة شعيب لقومه، ودعوة موسى لفرعون، ودعوة مؤمن آل فرعون، ومؤمن سورة يس وغيرهم من دعاة الحق والخير.

انظروا إلى مؤمن آل فرعون كيف وقف يخاطب فرعون ومن معه إنه يشعرهم بأنهم قومه، وأنه واحد منهم، يمه أمرهم، ويعنيه أن يبقى ملكهم ويدوم مجدهم، فهو يخاطبهم بهذه الروح: [يَا قَوْمِ لَكُمُ المُلْكُ اليَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جَاءَنَا] {غافر:29}.

ثم يخوفهم ممَّا أصاب الأمم من قبلهم حين أعرضوا عن طاعة الله ورسوله ويثير فيهم الخوف من عذاب الآخرة، ويستمر في دعوته لقومه بأسلوب يفيض رقة وحنواً مرغباً ومرهباً إلى أن يقول في ختام وصيته:[فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالعِبَادِ] {غافر:44}.

هذا هو الأسلوب الذي ينبغي لأصحاب الدعوات أن يتبعوه في دعوتهم للمعاندين ومخاطبتهم للمخالفين، وحسبنا وصية الله تعالى للرسولين الكريمين موسى وهارون عليهما السلام: [اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى] {طه:44} . أي: اذهبا إلى فرعون الطاغية الذي جاوَز الحد في كفره وطُغيانه، وظلمه وعُدوانه"، فقولا‌ له قولاً ليِّنًا"؛ أي: سهلاً لطيفًا، برفقٍ ولِين وأدبٍ في اللفظ، من دون فُحش، ولا‌ صَلَفٍ، ولا‌ غِلظة في المقال، أو فَظاظة في الأ‌فعال؛ "لعله" - بسبب القول اللين - "يتذكَّر" ما ينفعه، فيأتيه، "أو يخشى" ما يضره، فيتركه؛ فإن القول اللين داعٍ لذلك، والقول الغليظ مُنفِّر عن صاحبه، وقد فُسِّر القول اللين في قوله  تعالى : ?فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى ? [النازعات: 18 - 19].

 

فإن في هذا الكلا‌م من لُطف القول وسهولته، وعدم بشاعته، ما لا‌ يخفى على المتأمِّل؛ فإنه أتى بـ: "هل" الدالة على العرض والمشاورة، والتي لا‌ يَشمئز منها أحد، ودعاه إلى التزكِّي والتطهُّر من الأ‌دناس التي أصلها التطهر عن الشرك، الذي لا يقبله عاقل سليم، ولم يقل: "أُزكيك"، بل قال: "تزكَّى" أنت بنفسك، ثم دعاه إلى سبيل ربه الذي ربَّاه، وأنعَم عليه بالنِّعم الظاهرة والباطنة، التي ينبغي مقابلتها بشُكرها وذكرها، فقال: ? وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى ?.

 فإن كان أسلوب الخطاب هذا لذلك الطاغية، فكيف بإخوانكم المسلمين ؟!

دخل رجلٌ على المأمون  ، الخليفة العباسي، يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر، فأغلظ له القول، وقسا في التعبير، ولم يراع أن لكل مقام مقالاً يناسبه، فقال له المأمون، يا هذا، ارفق، فإن الله بعث من هو خيرٌ منك إلى من هو شرٌّ مني،  وأمره بالرفق، بعث موسى وهارون، وهما خير منك، إلى فرعون، وهو شر مني، وأوصاهما بقوله:[اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى] {طه:44} .وبهذا حجَّ  المأمون ذلك الرجل، وخصمه فلم يجد جواباً.

 إن القول اللين في الدعوة إلى الله لا يعني بحال من الأحوال تجاوز الثوابت، ولا يعني التهاون في أمور الدين، فإن الله لما أمر موسى وهارون بالقول اللين، قال لهما - سبحانه - أن يبلغا فرعون الدعوة بكل وضوح، بدون مداهنة أو تمييع؛ ? فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى * إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ? [طه: 47 – 48].

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين