من خلق المسلم: الرفق -10- والأخيرة

 الرفق في حياة النبي صلى الله عليه وسلم

12- الرفق في التعامل مع الكفار: 

عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: إن اليهود أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال اليهود: السام عليكم (الموت عليكم)، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((وعليكم))، قالت عائشة - رضي الله عنها -: السام عليكم ولعَنكم الله، وغضِب عليكم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَهلاً يا عائشة، عليك بالرفق وإيَّاك والعنف والفُحش))، فقالت عائشة - رضي الله عنها - : أوَلم تسمع ما قالوا؟! فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((أوَلم تسمعي ما قلت، ردَدت عليهم، فيُستجاب لي، ولا‌ يستجاب لهم فِيَّ)) رواه البخاري، وفي رواية مسلم: ((لا‌ تكوني فاحشة؛ فإن الله لا‌ يحب الفُحش والتفحُّش)). 

 

الرفق في موضع الرفق والشدَّة في موضع الشدة: 

من مزايا الشخصية النبوية وجوانب العظمة المحمدية: التوازن ، وإعطاء كل حالة ما يناسبها. فهو صلى الله عليه وسلم مع شدة رحمته وعظيم رفقه، يشتد في المواطن التي تقتضي الشدة.لا سيما مع الكفار المحاربين، والخونة الغادرين.

قال الله تعالى: [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً] {التوبة:123}. [فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الحَرْبُ أَوْزَارَهَا] {محمد:4}.

  وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم عذب بقطع الأيدي والأرجل وسمل الأعين وذلك في قصة العرنيين الشهيرة الصحيحة التي رواها البخاري (233)، ومسلم (1671)، عن أنس رضي الله عنه: قدم أناس من عرينة فاجتووا المدينة أي: استوخموها ، فأمر لهم الرسول صلى الله عليه وسلم بلقاح، وأن يشربوا من أبوالها وألبانها، فانطلقوا فلما صحوا قتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم وساقوا الغنم، فجاء الخبر في أول النهار فقمنا في آثارهم، فلما ارتفع النهار جئنا بهم فأمر بقطع أيديهم وأرجلهم وسملت أعينهم، وألقوا في الحرة ـ أرض ذات حجارة سود ـ يستسقون فلا يسقون، وفي رواية حتى ماتوا.

وروى ابن أبي عاصم في كتابه "الجهاد "(253) أنه صلى الله عليه وسلم باشر القتل بيده الشريفة، فقتل أبي بن خلف، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم تناول الحربة من يد الحارث بن الصمَّة فأخذها عليه الصلاة والسلام ، فطعنه طعنة في عنقه وقع بها عن فرسه فكسر ضلعاً من أضلاعه فمات.

وثبت أنه عذب صلى الله عليه وسلم بالإحراق والهدم. 

 روى ابن هشام ( 2/517 ) بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن  أناساً من المنافقين يجتمعون في بيت سويلم اليهودي يثبطون الناس عن تبوك فبعث صلى الله عليه وسلم طلحة بن عبد الله في نفر وأمره أن يحرق عليهم بيت سويلم ففعل.

وفي غزوة تبوك جاءه عليه السلام خبر مسجد الضرار من السماء، فأرسل جماعة من أصحابه وأمرهم أن يهدموه ويحرقوه. وقد قطع النبي صلى الله عليه وسلم نخل بني النضير وأحرق قراهم. الإنسان الكامل ص 300. 

 

ومع أن الرفق هو الأصل في معاملة النبي صلى الله عليه وسلم للعاصي -كما تقدم -إلا أنه صلوات الله وسلامه عليه كان أحيانا يغلظ في الإنكار على العاصي لمصلحة تربوية يراها، فعن عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ قال: "رأى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عليَّ ثوبين معصفريْن، فقال: أأمك أمرتك بهذا؟، قلت: أغسلهما، قال: بل أحرقهما"، وفي رواية:  "إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسهما" رواه مسلم .

الثياب المعصفرة ليست من ملابس الرجال، وإنما تلبسها النساء، فإذا لبسها الرجل تشبه بالمرأة، وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبِّهين من الرجال بالنساء، ولعلها قد كانت من ملابس الروم أو فارس، فلذلك قال: "من ثياب الكفار" .

 

بل ربما بالغ النبي صلى الله عليه وسلم في تأديب العاصي، فهجره وأمر الناس بهجره، إن كان في ذلك مصلحة تربوية للعاصي نفسه أو لمن حوله، كما حصل مع الثلاثة الذين خُلفوا في غزوة تبوك، مع الأخذ في الاعتبار العلم بأن تطبيق هذا الهجر، وهذه الشدة يجب أن تتمَّ مع أمن الوقوع في الفتنة لمن يُطَبَق عليه ذلك . 

فالأحوال الخاصة التي استعمل فيها الرسول صلى الله عليه وسلم الشدة لأنها تتحقق فيها المصلحة أكثر من الرفق، وسلوكها مقتضى العدل وكمال العقل الذي دل عليه الشرع كما في إقامته الحدود و التعزير وقتال الكفار المحاربين.

ومع ذلك فلم يكن في شدته ظلم لأحد أو مجاوزة لحدود الله في حقوق الخلق وحرمتهم.

 فالفقه في هذا الباب أن المشروع للمسلم استعمال الرفق في سائر الأمور إلا إذا دعت الحاجة واقتضت المصلحة في استعمال الشدة فيكون ترك الرفق في هذا المقام مشروعاً.

 

وبهذا يتبين أن سلوك الرفق في كل شيء حتى إذا انتهكت محارم الله، وضيِّعت الحقوق، وأميتت السنة مسلك خاطئ مخالف للشرع.

 ومن باب أولى فغن سلوك الشدة في سائر الأحوال والأمور مسلك خاطئ يفضي إلى تنفير الناس وصرفهم عن الحق ووقوع العداوة والبغضاء، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتيسير وعدم التعسير. 

فالفقه والبصيرة في الدين هي أن الأصل في الأمور كلها الرفق إلا في أحوال قليلة تستعمل الشدة.

 قال النووي في شرح حديث الرفق: (وفيه حث على الرفق والصبر والحلم وملاطفة الناس ما لم تدع حاجة إلى المخاشنة). 

وهذا المسلك الحق من توفيق الله للعبد وتيسيره. فهنيئا لمن اقتدى بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وكان رفيقاً لطيفاً متسامحاً تاركاً للعنف والشدة، هيناً ليناً يألف ويؤلف. 

إن سيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مليئة بالمواقف التربوية والمضيئة التي ينبغي أن نقتدي بها في تعليمنا وتربيتنا ودعوتنا، وصدق الله : (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً }  ( الأحزاب:21 ..

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم. 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين