من حكمة مشروعية الصيام ، عز الصيف هذا العام




يتساءل كثير من الناس عن حكمة مشروعية الصيام ، مع شدة الحر ، ومجيئ رمضان في عز الصيف هذا العام

نقول : الحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه وبعد فقد قال تعالى :"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ *شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ"[1] وفى الصحيح : "بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ، شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكاةِ، وَحَجِّ الْبَيْتِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ".[2] فى هذه النصوص من شقي الوحي الكتاب والسنة دليل على وجوب صيام شهر رمضان شعبة الإيمان ، وركن الإسلام وأحد مبانيه العظام، ويدور الفلك دورته ، فيأتي رمضان في الصيف – كما نحن منذ خمس سنوات – ثم تتعاقب فصول العام فيعبد المسلم ربه في كل أحواله وأحيانه ،وهكذا ولقد فرضه الله تعالى على عباده لحكم عظيمة، وأسرار باهرة، علمها من علمها، وجهلها من جهلها. وهاك بعضا منها:



1) التقرب إلى الله تعالي بما افترضه
فى الحديث القدسي الصحيح "وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ"[3]

2) إيقاظ القلب لمراقبة الله
إن الصيام من شأنه أن يوقظ قلب المؤمن لمراقبة الله عز وجل، ذلك لأن الصائم ما إن يستدبر جزءاً من نهاره حتى يحس بالجوع والعطش، وتهفو نفسه إلى الطعام والشراب، لكن شعوره بأنه صائم يحول دون تحقيقه لرغبات نفسه، تحقيقاً لأمر الله عز وجل، ومن خلال هذا التدافع يستيقظ القلب، وينمو فيه شعور المراقبة لله تعالى، ويظل على ذكر لربوبيته وعظيم سلطانه، كما يظل متنبهاً إلى أنه عبد خاضع لحكم الله تعالى، ومنقاد لإرادته، والصيام عبادة بدنية قوامُها ترك المفطرات المعروفة، ولما كان ترك هذه المفطرات سراً بين العبد وبين ربه، فإنه مما لا شك فيه أنه متى تم هذا العمل فيما بين الإنسان وبين الله كان ذلك أعظم لأجره، وأجزل لثوابه. وقد ذكر ذلك كثير من العلماء، فقالوا: إن الصيام سر بين العبد وبين الله. وقالوا: إن ملائكة الحفظة لا تكتبه، لأن الإنسان إذا صام لا يطّلع عليه إلا الله. فإذا صمت فمن الذي يراك في كل حركاتك، وفي كل أوقاتك؟! إن من يغفل عن مراقبة الله له يفعل ما توسوس به نفسه ، ويزينه له شيطانه فيتناول طعامه وشرابه دون ما خوف من الله عز وجل. ولكن العبد المؤمن يعلم أن معه من يراقبه، وأن عليه رقيب عتيد؛ يعلم أن ربه يراه قال تعالى: ((الذي يراك حين تقوم * وتقلبك في الساجدين))[4] فإذا كان العبد يؤمن بأن الله تعالى هو المطّلع عليه وحده، كان ذلك مما يحمله على أن يخلص في عمله، كما يحمله على الإخلاص في كل الحالات، ويبقى معه في كل شهور السنة. أليس الذي يراقبنا في رمضان هو الذي يراقبنا في سائر الأوقات؟ فيجب على المسلم أن يستحضر ربه دائماً، فإنه عليه رقيب يعلم ما تكنه نفسه، يقول تعالى: ((ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه، ونحن أقرب إليه من حبل الوريد))[5]

3) كسر النفس عن الشهوات، وفطامها عن المألوفات
ومن حِكم الصيام حبس النفس وكسرها عن الشهوات، وفطامها عن المألوفات، وتضييق مجاري الشيطان من العبد، بتضييق مجاري الطعام والشراب، فيضعف نفوذ الشيطان، وتقل المعاصي. فى الصحيح:" يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ"[6] وفى هذا الحديث الصحيح إرشاد - العاجز عن تكاليف إنشاء وإقامة الحياة الزوجية - إلى الصيام لأن شهوة النكاح تابعة لشهوة الأكل تقوى بقوته وتضعف بضعفه وكثير من الناس الآن يصومون، لكنهم لا يجدون لهذا الصيام أثراً لتخفيف حدة الشهوة، وذلك أنهم لم يذوقوا ألم الجوع والعطش والتعب، بل ظلت نفوسهم متعبة بالشهوات، وأنّى لهم أن يتركوها وقد أضافوا إلى صومهم كل ما تعف النفس عن رؤيته من أفلام خليعة ومسلسلات ماجنة.

4) إيثار العبد مرضاة الله على مرضاة نفسه
اختبار إيثار العبد وتركه ما يحب ويشتهي، طاعة لربه، وامتثالاً لأمره، فيظهر بذلك صدق إيمانه، وكمال عبوديته لله، وقوة محبته له. ورجائه فيما عنده، لأنه علم أن رضا مولاه في ترك شهواته، فقدّم رضا مولاه على هواه ورضا نفسه، ولهذا كان كثير من المؤمنين لو ضرب أو حبس على أن يفطر يوماً من رمضان بلا عذر لم يفعل. لعلمه بكراهة الله لفطره في هذا الشهر وهذا من علامات الإيمان : أن يكره المؤمن ما يلائمه من شهواته إذا علم أن الله يكرهه ؛ فتصير لذته فيما يرضى مولاه ، وإن كان مخالفا لهواه ، ويكون ألمه فيما يكره مولاه ؛ وإن كان موافقا لهواه"[7] قال تعالى:" وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِينا"[8] وفى الصحيح : "كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ الحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَىَ سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِلاَّ الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي" [9].


[1] البقرة : 183-185

[2] صحيح البخاري كِتَابُ الإِيمَانِ بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ» صحيح مسلم كتاب الإيمان. باب بيان أركان الإِسلام ودعائمه العظام.

[3] صحيح البخاري (8/ 105) 81 - كِتَابُ الرِّقَاقِ بَابُ التَّوَاضُعِ

[4] الشعراء:218-219

[5] ق:16

[6] صحيح البخاري كِتَاب الصَّوْمِ. باب الصَّوْمِ لِمَنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ الْعُزْبَةَ.كِتَاب النِّكَاحِ. باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ.باب مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ الْبَاءَةَ فَلْيَصُمْ. ‏صحيح مسلم كتاب النِّكاح. باب استحباب النِّكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنة، واشتغال من عجز عن المؤن بالصَّوم.

[7] لطائف المعارف لابن رجب (ص: 153)

[8] الأحزاب:36

[9] صحيح مسلم كتاب الصيام. باب فضل الصيام

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين