من توجيهات القرآن في تربية الخلق

 


الشيخ عبد اللطيف السبكي
 
أ ـ[إِنَّ المُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ] {القمر:54}.
ب ـ [إِنَّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ] {النساء:145}.
 
قف معي أمامَ هاتين الآيتين، واستشعر بوجدانك بُعْد ما بين الفريقين، ثم صاحبني في الموازنة بين المقامين، علنا نهتدي من وراء ذلك إلى ما هنا من توجيه نحو أخلاق هي ذات الشأن في التفريق بين فريق وفريق.
شعار هذا المقال ينم عن وعظ، ويوحي بأنه للترغيب والترهيب، ولئن كان ذلك المعنى شاخصاً فيما أكتب، فأنا القصد الذي عنيته بالذات، وأردت القارئ على أن يؤازرني فيه هو أن نواصل ما بدأنا من تتبع ما هنا من توجيهات خُلُقية سبقت إلينا في تأكيد من القول، ولكنا على جفوة منها أو تجاهل، حتى كأنها لم تكن لنا وبنا، أو كأننا في حِلٍّ منها عملاً والتزاماً.
1 ـ ينساق إلى بعض الأذهان أنَّ القرآن حينما يتحدث عن المتقين، إنما يقصد خصوص القائمين برسوم الإسلام من صلاة وزكاة ونحوهما، وإن وهن فيهم جانب الأخلاق، وأنه حينما يتحدث عن نقائض المنافقين لا يعني بهم سوى المنافقين في الإسلام، على عهد الرسول عليه السلام، وإن توفرت كثرتهم بيننا في هذه الأزمان.
ولو صح ذلك لكانت الفضيلة أرخص ما يدعيه الأدعياء، ولوجدتَ جمهرة الأشرار يزحمون خيار الناس في مَنَاقبهم، ويحتلون من الشرف مَنازلهم.
ولكن القرآن الكريم وضع للفضيلة حدودها ومعالمها، وماز الخبيث من الطيب، بما ذكر من خصائص النفوس، واختلاف النزعات، فإذا توارت عن بعض العقول حدود الفضيلة، أو تَعَامت عن مَعَالمها بصائر، أو تطاول نفر من الحمقى فزعموا لأنفسهم أكثر مما لها، فلن يكون ذلك طامساً لما رسم القرآن، ولن يخلط الأوضاع التي تأبى أن تتبدل، والتي ستظل في حماية الدين، وفي رعاية العلم، وستظل كذلك ما دَامَ عقل يَزن، وضمير يحكم.
ليس الأمر كما فهم أولئك الذين زعموا أنَّ دعوة القرآن إلى الخير، تقف عند فرائض قد يؤديها من لا يحسنها، وقد يُباهي بها من يَسير في حياته على مُناهضتها، ولا يستشعر بشيء مما توحي به في رسمها، وفي معناها وأهدافها، وإنما القرآن أوسع رحاباً مما تخيلوا وأسمى مأرباً مما فهموا.
فهو ينظر في الإنسان إلى عقيدته وعمله، ويعتبر الخلق جانباً من العمل، ناظراً إلى أثره في الوجود، وما ينجم عنه من خير أو شر، فهو لا يحكم على الخلق، ولا يرتب عليه جزاء إلا بقدر ما يتحقق من ورائه، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.
ثم يرى القرآن فيما علَّمنا أن الخُلق ـ العمل ـ من متعلقات العقيدة وفيه تتمثل قوتها، أو يبدو ضعفها، وعلى ذلك ترى القرآن حينما يذكر المتقين ليشيد بهم، وحينما يبشِّرُهم بما أعدَّ لهم في أُخراهم، إنما يقصد بهم أولئك الذين صحَّت عقيدتهم، وسلمت من شوائب الدخل طويتهم، فكان مظهرها خالصاً وصادقاً فيما يبدو من خلق كريم، وما يبدو من عمل حميد.
وما من شك في أنَّ العقيدة مصدر الإلهام للجوارح، وصاحبة السلطان في التوجيه، فتدفعُ إلى الخير وتحببه إلى النفس، أو تذود عنه وترغب عن سواه.
وإلى هنا يتضح أنَّ العقيدة وحدَها، أو عملاً طيباً لا تكون العقيدة مبعثه، أو لا يكون مشفوعاً بخُلق حسن شيء من ذلك وحده لا يكفي لانتظام صاحبه في المتقين، ولا ينهض شأنه أن يأبه القرآن لذكره، والإشادة به، واستنهاض العزائم، وإيقاظ النفوس لأن تترسَّم آثاره، وتتأسى بصنيعه.
وقد تقرَّر عند أولي العلم أنَّ الإيمان عقيدة، وقول، وعمل، فإذا ما اعتور النقص واحداً من هذه الثلاث امتنع أن يوصف بالتقوى، إذ التقوى هي كمال الإيمان.
نعم تكون تقوى نسبية في مقابلة من يكون أقلَّ من ذلك منزلة، ولكن ليست التقوى التي يُردِّد القرآنُ امتداحَها، ويقام لها الوزن الراجح في اصطلاح علم الأخلاق.
ولدينا المثل لتطبيق هذا، فإنَّ خيار الناس الذين امتلأت الدنيا بذكرهم، وجرت على لسان الزمن سيرتهم، كان امتيازهم بعد العقيدة بادياً من ناحية الخلق.
وكانت أخلاقهم نماذج للإنسانية الكاملة، ومعالم وضَّاءة لهداية الناس، لا في جانب دون جانب، بل في جوانب الحياة عامَّة، وفي كل شأن يتصل به شؤون الجماعات، وقد رأينا القرآن حينما يعرض الثناء على المتقين، يذكر أول ما يذكر ناحية الخلق، فهو يمتدح فيهم كظم الغيظ، والعفو عن الناس، والإعراض عن اللغو، وعفة اللسان، ويذكر لهم الإيثار والقناعة، والإخلاص وحب الخير للناس والوفاء ونقاء السريرة، وقوة العاطفة والصبر والرضا، ويذكر كل ما يَعتبره الدين من كمال الدين وكل ما يراه علم الأخلاق من محاسن الأخلاق.
ونرى القرآن حينما يختصُّ النبيَّ محمداً صلوات الله عليه بذكر مناقبه، يمتدح فيه الرحمة ولين الجانب وسعة الحلم، وجميل الصفح، ويحمل ذلك وما إليه من شمائله الكريمة في قوله:[وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ] {آل عمران:159}.
وفي ذلك توجيه لنا إلى أن المسالمة ورِقَّة الطبع، ولطف المعشر أقرب الوسائل إلى امتلاك القلوب، وتأليف الجماعات.
ثم في مقام آخر يعمد القرآن الكريم إلى الإحاطة بكل ما يتأتى أن يمدح به النبي صلى الله عليه وسلم ويطوي ذلك في أيسر عبارة تجري على اللسان فيقول: [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] {القلم:4}.
فهذا نمط القرآن الكريم حين يتحدَّث عن التقوى والمتقين، إذ يذكر أعمالهم وخصالهم، ولا يقف عند ذلك التحديد الضيق الذي يقف عنده الذهن الكليل.
ومع أنَّ القرآن الكريم ينثر أوصاف المتقين في مواضع كثيرة من آياته، ويبثُّ مدائحهم في ألوان عدَّة من الثناء، فقد نراه يوجز كل ذلك في وعد كريم يكشف عما لهم عند الله من قَدر كفاء ما تجمَّلوا به من خلق أفرأيت قولاً أحفل بالرضا، وأدلَّ على سموِّ المنزلة من قوله تعالى: [إِنَّ المُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ] {الحجر:45} [إِنَّ المُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ] {الطُّور:17} [إِنَّ المُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ] {القمر:54}.
بل هناك من حسن التقدير، وبالغ الوصف ما هو أحفل وأعجب، وحسبك قوله عز شأنه: [لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ] {الزُّمر:34} فكأنهم غير مجزيين بقدر أعمالهم فحسب، بل لهم الآمال الفسيحة، والمطامع الممتدة، والرغبات المستجابة ـ ذلك جزاء المحسنين ـ.
فليتنبه إلى ذلك من كان يظنُّ أن التلوَّن بلون الدين في عبادة جافة، أو في زهادة لا يؤازرها خُلُق، أو في تزمُّت وغرور، أو في تكاسل مع الإسراف في حسن الظنِّ بعفو الله، من كان يظنُّ أنَّ شيئاً من ذلك يرقى به إلى مَكان يروقه من الإيمان، أو ينهض به إلى مَنزلة أُعدَّت لمن عرفوا الدين ديناً وخلقاً، فهو دون الفهم الصحيح، والنظر الصائب ببون شاسع وأمد بعيد.
ب ـ  ذلك هو المقام الكريم من مَقَامين، فأين منه مقام آخرين على طرف مضاد؟ [إِنَّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ] {النساء:145}.
وضح في كلمة سبقت لنا: أنَّ القرآن في دعوته إلى تزكية النفس، يستحثنا على الصدق فيما ننتحل من قول وعمل، وينآى بنا عن مساوئ الدعوى المصطنعة، والتقنع بالكمال المدخول، مع الركون إلى سفساف الخلق، والاحتيال في جلب الثناء من غير طريقه.
يرى القرآن الكريم فيما يتجه إلينا به أن هذا اللون الزائف من الخلق المموه، شر ما يطمس معالم الإنسانية وقد كرَّمها الله، وأصبح ما ينتاب المجتمع من تحلل النفسيات، والتبجح في قلب الأوضاع والطغيان على المبادئ القويمة التي هي موازين الكرامات والتي تعتبر من مَبَاهج الحياة.
وما كانت أقدارُ الناس مُتمايزة في قياس العقل، ولا كانت القيم الأدبية على تفاوت بين إنسان وإنسان، بل بين الإنسان والحيوان الأعجم إلا لأن هناك مدارك وحساسية توفرت في جانب دون جانب، وبرزت آثارها في فرد أو جماعة أكثر مما توفرت وبرزت في آخرين.
فهذا إنسان أينع في الخلق الفاضل، حتى ارتقى في مكانته لدى من يقدره واقترب في إنسانيته أن يكون ملائكياً، وذاك آخر هبطت فيه المدارك والحساسية، وذبلت نفسيته حتى ارتكس إلى سفل، وكان محسوباً على الإنسانية وهو ثقل على عاتقها، ومخزاة في وجهها، أو كانت حياته شقوة تلحق بمجتمعه، وتكدِّر العيش على من يَبتغون العيش مُطمئناً في ظلال رفيهة من حسن الأخلاق.
يسوقنا ذلك أو يسوقنا إلى ذلك ما صنع القرآن في حديثه عن النفاق وأهله، فقد انتهج مع المنافقين أقسى مما انتهج مع أهل الكفر الصراح.
ليس لأن الكافرين بدعوة الإسلام أحب إليه ممن نافقوا، ولكن لأنَّ الكفر الصراح يعتبر من الوجهة الاجتماعية عِناداً سافراً وعداء مكشوفاً، أما النفاق فعداء ملفوف، وضغن كامن، فيه ما في الكفر الصراح من قبح، وفيه فوق ذلك مكر يبيتونه، وشِبَاك يَنصبونها وراء ذلك الود البرَّاق.
وكثيراً ما يقع المسالم المطمئن في حبال النفاق، إذا استنام إلى ظاهره، ولم يفطن إلى خباياه.
إنه من الهين على المرء أن يتحاشى عدواً سافراً أكثر مما يتحاشى عدواً كامناً.
لذلك كان النفاق مَهيناً غاية المهانة، وكان بغيضاً نهاية البغض، فليس فيه شيء يخفف من سوء ما به، ولا يجتمع مع النفاق اعتزاز بشخصية، ولا احتفاظ بكرامة، ولا خشية من معرَّة.
ذكر القرآن الكريم من أوصاف المنافق ما كشف عن شخصية متأرجحة، لا تملكها عقيدة، ولم يثبتها إيمان، فهي بين وسوسة وقتية، ورعدة لازمة، ويظل المنافق بين وسوسته وخوفه مفكك الشخصية، مَائع الخلق، غير مُتماسك الرأي، وهو إزاء اضطرابه ذلك يحاول أن يستند إلى غيره، كمن يلعب برأسه دوار، أو كمن خارت قواه عن الوقوف، فلم يتمالك أن ينهض على قدميه، فمدَّ يده إلى جانب والأخرى إلى جانب، ثم ترهَّل في حركته ليقف كما يقف الأقوياء، وليس هو من الأقوياء.
يحرص المنافق على أن يمالئ هذا وذاك، ويلتمس الرضا هنا وهناك، فهو مع كل زامر يرقص، ومع كل منشد يطرب، وأنى يكون إنساناً من كان كذلك، أو على شيء من ذلك؟.
وليس أصدق من قول الله تعالى فيمن يُنافق:[مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ] {النساء:143} ولا يحسبن حاسب أنَّ النفاق جملة نقائص تتجمع في شخص بل النفاق خصال وضيعة، فمن تجمعت لديه فهو ممعن في نفاقه، ومن ابتلي منها بشيء فهو منافق إلى حد ما، والنفاق شر كله وإن كان هيناً على من اقترفه أو اقترف منه طرفاً يسيراً.
ذكر القرآن الكريم أوصاف النفاق في مُناسبات من آياته، فأنت تراه يقول عن المنافقين: [وَيَحْلِفُونَ عَلَى الكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ] {المجادلة:14}. ويقول: [فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ] {البقرة:10} [قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ] {آل عمران:118} [يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ] {الفتح:11}[يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ] {النساء:38} [فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ] {التوبة:58} [يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلًا] {النساء:142} [فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ] {الحج:11}[يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ] {النساء:142}.
وهكذا من الآيات التي تشهد على المنافق بالضعة، وتعطيك من صوره أنه مُرَاءٍ وكذَّاب، ونفعي ومُتصنع، ومريض القلب، وما إلى ذلك مما يعافه السمع الكريم، وتتأوه من هوله الجماعات، فهل بعد هاته الدنايا يعرض للمنافق شأن أو يقام له حساب؟.
من كان كذلك فهو دون الغير في الاعتبار، بل هو دون الغير حتى في الهوان، فقد يكون خصم له قدر، وقد يكون خصم تتخطاه الأنظار، ويتجاوزه الحديث حتى في عداد الخصوم لو كانوا شرفاء، فإذا رأيت القرآن الكريم يؤكد لك أن المنافقين في الدرك الأسفل من النار فقد سلك بهم مسلكهم، ووضعهم في آخراهم حيث وضعوا أنفسهم في دنياهم، وجعل قرارهم في الدرك الأسفل، بعد أن جعل مَثوى المتقين في مَقام أمين، ولم يكن هناك بين هؤلاء وأولاء سوى كرامة وأخلاق. واليوم يا بُعد ما بَين مقام ومقام!
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
 
المصدر: مجلة الأزهر المجلد 21، شعبان 1369، العدد 8.
 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين