من أعلام الإسلام... جعفر بن أبي طالب

الأستاذ: عبد المغني المنشاوي

ومَن كجعفر بن أبي طالب؟ اقتعد في حياته غَاربي المجد والسيادة،كما نال بعد جهاده وجلاده فضل التضحية والشهادة! بل إنه عَلَمُ المجاهدين المناضلين،المضحِّين بالنفس والنفيس في سبيل الذود عن حياض الدين!
إنه جعفر أبو عبد الله،ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم،وأخو عليٌّ بن أبي طالب،عليهما رضوان الله،وهو أسنُّ من عليٍّ بعشر سنين،وثالث الأخوين عقيل،وُلِدوا ثلاثتهم من فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف.
قال ابن اسحق: أسلم جعفر بعد أحد وثلاثين نفساً،لكن الحسن بن زيد يقول: إن علياً أول ذكر أسلم،ثم أسلم زيد،ثم جعفر،وكان أبو بكر رضي الله عنهم الرابع أو الخامس. وأيَّاً ما كان،جعفراً كان في طليعة المصدِّقين برسالة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم المتفانين في سبيل إظهار دينه على كل دين.
هاجر جعفر رضي الله عنه الهجرتين،وهاجر من الحبشة إلى المدينة،فوافى المسلمين وهم على خيبر أثر أخذها،فأقام بالمدينة ما شاء الله أن يقيم،ثم أمَّره رسول الله صلى الله عليه وسلم على جيش غزوة مؤتة بناحية الكرك،فاستشهد بعد طول جهاد وجلاد،و بعد أن أبلى في مناضلة الأعداء أحسن البلاء،وما كاد رسول الله يسرُّ السرور كلَّه بقدومه،حتى حزن والله الحزن كله لنبأ وفاته.
والآن ننشر أمام عينيك أيها القارئ الكريم،صفحة مشرقة،يتجلى لك فيها شخص جعفر بن أبي طالب،وهو يقارع خصوم دينه بلسانه في ميدان الجدال،مقارعته لهم بسيفه في ميدان القتال.
قال ابن مسعود رضي الله عنه:بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي ثمانين رجلاً: أنا وجعفر،وأبو موسى،وعبد الله بن عُرفطة،وعثمان بن مظعون،وبعثت قريش عمرو بن العاص،و عمارة بن الوليد بهديَّة،فقدما على النجاشي،فلما دخلا سجدا له وابتدراه،فقعد واحد عن يمينه،والآخر عن شماله،فقالا: إن نفراً من قومنا نزلوا بأرضك، فرغبوا عن ملَّتنا! قال: وأين هم؟ قالوا: بأرضك. فأرسل في طلبهم،فقال جعفر رضي الله عنه: أنا خطيبكم،فاتبعوه فدخل فسلَّم،فقالوا: مالك لا تسجد للملك؟ قال: إنَّا لا نسجد إلاَّ لله.
قالوا: ولِمَ ذاك؟ قال: إن الله أرسل فينا رسولاً،وأمرنا ألاَّ نسجد إلاَّ لله،وأمرنا بالصلاة والزكاة.
فقال عمرو،مندوب قريش: إنهم يخالفونكم في ابن مريم وأمِّه. قال: ما تقولون في ابن مريم وأمِّه؟ قال جعفر: نقول كما قال الله تعالى: [إِنَّمَا المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ] {النساء:171}. التي لم يمسسها بشر. قال ابن مسعود: فرفع النجاشي عوداً من الأرض وقال: معشر الحبشة والقسيسين والرهبان،ما تريدون ؟ ما يسوءني هذا،أشهد أنه رسول الله،وأنه الذي بشَّر به عيسى في الإنجيل،والله لولا ما أنا فيه من الملك لأتيته،فأكون أنا الذي أحمل نعله،وأوضِّئه،وقال: انزلوا حيث شئتم،وأمر بهدَّية الآخرين فردَّت عليهما!!
وهذه أم سلمة عليها الرضوان تلقى بعض الألوان من اليضاح والبيان على هذه الهجرة فتقول: لما ضاقت علينا مكة وأوذي أصحاب رسول الله وفُتنوا،قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن بأرض الحبشة ملكاً لا يُظلم أحدٌ عنده،فالحقوا ببلاده،حتى يجعل الله لكم فرجاً ومخرجاً) فخرجنا إليه أرسالاً،حتى اجتمعنا فنزلنا بخير دار،إلى خير جار أمَّننا على ديننا.
وتزيد أم سلمة،عليها الرضوان ألوانَ هذا البيان في ختام هذه القصة فتقول: أن النجاشي سأل وفد المسلمين،وعلى رأسهم جعفر رضي الله عنه: هل معكم شيء مما جاء به رسولكم؟ وكان قد دعا أساقفته،فأمرهم فنشروا المصاحف حوله ـ فقال لهم جعفر: نعم،وقرأت عليهم صدراً من سورة: [كهيعص ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا] {مريم:3}.
ولا شك أن جعفراً أصاب المحزَّ،ولم يخطئ المفصل،ولم يجانبه التوفيق،بعد إذ قرأ عليهم: [وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا] {مريم:16}. إلى آخر الآيات الكريمة التي تكشف الغطاء،وتزيح الشك والخفاء عن قصة مريم وعيسى،فتتجلَّى للناس في ثوبي الحق والصدق،ومن أصدق من الله قيلاً؟.
وما أتم جعفر تلاوة الآيات الكريمات،حتى بكى والله النجاشي حتى أخضل لحيته ـ بللها ـ وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم!! ثم قال: إن هذا الكلام ليخرج من المشكاة التي جاء به موسى.
وأقبل بوجهه على وفد المسلمين ليقول لهم: انطلقوا راشدين،ونظر شزراً إلى عضوي وفد قريش ليقول لهم: لا والله،لا أردَّهم عليكم،ولا أنعمكم علينا! فخرجا من لدنه تجلِّلهما الهزيمة والصَغار.
ولما عاد جعفر ومن معه إلى المدينة المنورة،ولبث فيها ما شاء الله أن يلبث،أمَّره رسول الله صلى الله عليه وسلم على جيش غزوة مؤتة،فأبلى في مجالدة الأعداء أحسن البلاء،ثم أكرمه الله بنيل الشهادة في سبيل الله نصرة دين الله.
قال ابن عمر رضي الله عنهما: فقدنا جعفراً يوم مؤتة،فوجدنا بين طعنة ورمية بضعاً وتسعين،وجدنا ذلك فيما اقبل من جسده،دليل شجاعته وجرأته رضي الله عنه،لأنه لا يقاتل إلا مقبلاً غير مدبر!!.
ولما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جعفر،قال رجل: رأيته حين طعنه رجل،فمشى إليه في الرمح،فضربه فماتا جميعاًَ! فيا لها من آية جديدة ناطقة بأن جعفراً من طراز جديد في الشجاعة والبطولة! إلا يكن،فكيف يستطيع أن يهجم على خصمه بعد أن انتظم الرمحُ صدره،ويضربه فيموتا جميعاً!!
قالت أسماء بنت عميس زوج جعفر: دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا بني جعفر،فرأيته شمهم،وذرفت عيناه،فقلت: يا رسول الله أبلغتك عن جعفر شيء؟ قال: (نعم،قتل اليوم) فقمنا نبكي،ورجع فقال: (اصنعوا لآل جعفر طعاماً فقد شغلوا عن أنفسهم).
ثم أرْعني بصرَك،أيها القارئ الكريم،لتقرأ معي عن ابن عباس رضي الله عنهما في جعفر هذا الحديث النبوي العظيم:
بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس،وأسماء بنت عميس قريبة إذ قال: ( يا أسماء،هذا جعفر مع جبريل وميكائيل،مرَّ فأخبرني أنه لقي المشركين يوم كذا وكذا فسلم. فردِّي عليه السلام،وقال: إنه لقي المشركين فأصابه في مقاديمه ثلاث وسبعون،فأخذ اللواء بيده اليمنى فقطعت،فأخذ باليسرى فقطعتّ!! قال: فعوَّضني الله من يديَّ جناحين أطير بهما مع جبريل وميكائيل في الجنة آكل من ثمارها)...
ويقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (رأيت جعفر بن أبي طالب ملكاً في الجنة،مضرجة قوادمه بالدماء يطير في الجنة).
ولعل هذا هو السر في شهرته بجعفر الطيَّار رضي الله عنه.
قال الشعبي: كان ابن عمر إذا سلم على عبد الله بن جعفر رضي الله عنهم قال: السلام عليك يابن ذي الجناحين..
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لجعفر: (اشبه خلقُك خَلْقي،وأشبه خُلُقك خُلقي،فأنت مني ومن شحمتي).
وفي رواية أخرى رواها عليٌّ رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أشبهتَ خَلقي وخُلقي).
هذا،ولكي نكشف عن مكانة جعفر رضي الله عنه من قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم،نسوق ما رواه الشعبي: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر،تلقَّاه جعفر فالتزمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبَّل بين عينيه وقال: (لا أدري: بأيهما أنا أفرح؟ بقدوم جعفر،أم بفتح خيبر؟).
وهذا أبو هريرة رضي الله عنه يقول: ما احتذي النعال،ولا ركب المطايا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضلُ من جعفر بن أبي طالب.
ويقول: كنا نسمي جعفراً: (أبا المساكين ) لشدة برِّه بهم،وإيثارهم حتى على نفسه.
فهنيئاً لجعفر بعد الذي كابده في الدنيا من مشقة وجهد،ما يلقاه الآن في فسيح الجنان من نعيم وخلد.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
المصدر: لواء الإسلام العدد الثامن،السنة السادس عشرة ربيع الثاني 1382

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين