من أعلام الأزهر: الشيخ عبدالفتاح أبو غدة (3)

والأستاذ في طليعة هؤلاء البررة بما سجَّل ودحض وقد اقتضاه الموقف أن يتعرض في كتابه السالف إلى تمحيص طائفة من الأحاديث الضعيفة مبىِّناً وهنها الركيك وإلى الخلوص لأهم أسباب الوضع في الحديث ونتائجه منتهياً إلى حديث شاف عن الإسناد، وتاريخ الرواة والرجال، ونقد الرواة، وبيان حالهم، وعلم الجرح والتعديل، وعلم مصطلح الحديث، وأمارات الحديث الموضوع!

وإذا كنت حمدت وضوح هذا السفر القيِّم، فإني أحمد دقة كتابين آخرين في هذا المجال هما كتاب «الإسناد من الدين» وكتاب: «تحقيق أسمى الصحيحين واسم جامع الترمذي» لأنهما أضافا الجديد حقاً فيما عالجاه من معضلات، فالكتاب الأول يتحدث حديثاً علمياً عن مكانة الإسناد من الدين بعد تدوين العلوم ورسوخها، وعن تحريفات غير مقصودة وقعت في كلام بعض الأئمة، وكان جميلاً أن ينتقل المؤلف إلى حديث أدبي عن اهتمام اللغويين بالسماع والإسناد، ناقداً أبا منصور الأزهري في نقله عن الكتب دون رواية شفوية.

أما ما أبدع فيه كل الإبداع فهو حديثه عن ألوان من التحريف اللفظي لأئمة كبار، فقد تتبَّع مؤلفات شهيرة لأعلام كبار ليرصد ما وقعوا فيه من خطأ لا يسلم منه بشر.

وقد آن أن أترك مجال الحديث إلى سواه، وأول ما اختاره في مجال التربية الإسلامية الرشيدة كتاب «صفحات من صبر العلماء» وهو كتاب لو لم يكن لمؤلفه غيره لكفاه مجداً وتقديراً، لأنَّه نمَّ عن اطلاع غزير، وذوق رقيق، وسمو في الاختيار، وبراعة في التعبير، وإيجاز هو البلاغة بعينها، فإن إيراد الوقائع المدهشة لا يحتاج إلى تعليق يذهب ببريقها الساطع، وهذا ما عناه المؤلف حين قال: «واقتصرت في هذه الصفحات على إيراد الأخبار والوقائع دون تحليل أو تعليق عليها إذ هي ناطقة بذاتها لا تحتاج إلى شرح وبيان» وهذه الطريقة أحبذها كل التحبيذ؛ لأن شغف بعض الثرثارين بالإسهاب المطيل يطفيء الجذوة التي أتقدت من روعة الحدث، وأذكر أني قرأت من قبل كتاب «من أخلاق العلماء» للأستاذ محمد سلىمان فوجدته يحوي أكثر من خمسمائة وستين نادرة من نوادر العلم والخلق والترفع والزهد والشجاعة الأدبية، فكانت بإيجازها اللامع مصدر إشعاع باهر يأخذ النفس، قبل أن يبهر العين،، وتمنيت أن يحذو حذوه عالم من طرازه فجاء كتاب الأستاذ عبد الفتاح فوق أمنية المتمني، وقد حُليت هوامشه بحواش نادرة ممتازة، يندر وقوعها إلا على يد لؤلؤي غواص.

وليس هذا الكتاب وحده الذي حظي بأمثال هذه الحواشي فأكثر كتب أبي غدة ذات حواشي وشروح، ولا أنسى أن أذكر على سبيل المثال حواشية العجيبة الساطعة المسهبة على كتاب «رسالة المسترشدين» للحارث المحاسبي فقد فاقت كل تقدير، ولولا حبي للمحاسبي لقلت إنها ارتفعت بقوله أرقى السموات ولعل كاتباً مبدعاً يعمد إلى كل قصة موجزة ذكرها المؤلف، فيتخذ منها سبباً لإبداع فني في رواية أو قصة تثير الأحاسيس، لأن بذرة التأثير فيما جمعه أبو غدة مهيأة لأن تنمو وتزهر وتُورِق وتثمر حتى تصبح دوحة يانعة، بإلهام فنان مقتدر، وأضرب المثل بقصة بقي ابن مخلد التي رواها المؤلف القدير في صفحة 58 وما بعدها من الطبعة الثالثة فقد قرأها الأستاذ الكبير على الطنطاوي في مصدرها الأول، وكتب عنها قصة رائعة في مجلة الرسالة سنة ۱۹۳۹م منذ أكثر من نصف قرن، فأين تلاميذ الطنطاوي ليغوصوا على هذه الفوائد في بحر الأستاذ أبي غدة، فيبلغوا بها حد الروعة في عالم الفنون! أين أين؟.

ولم يستطع المؤلف أن ىكتم مواجده الكظيمة، حين تثور عليه هذه المواجد!! وكيف يكتمها وهو يصطلي بجمرها اللاهب بين أضلاعه، ويحتاج إلى تنفس يلطف ما يلذعه من أوار، فهو حين يذكر جهود السابقين في طلب العلم بالماضي يتذكر ما يراه في الحاضر من قصور فادح فتلتاع مشاعره التياعاً يدفعه إلى أن يعقّب بمثل قوله ص 109:

«فوازن رعاك الله بين هذه الدراسة التي أثمرتها الرحلات، وبين دراسة طلاب جامعاتنا اليوم يدرسون فيها أربع سنوات، وأغلبهم يدرسون دراسة صحفية فردية، لا حضور ولا استماع ولا مناقشة ولا اقتناع، ولا تطاعم في الأخلاق ولا تأس ويتسقطون المباحث المظنونة للسؤال من مقرراتهم المختصرة، ثم يسعون إلى تلخيص تلك المقرارت، ثم يسعون إلى إسقاط البحوث غير الهامة من المقروءات [والهامة أيضا وهذا الغالب].

[ولا] أستطيع مقاومة الإغراء الذي يدفعني بعنف إلى الإلمام بحديث موجز عن كتابه النادر: «العلماء العزاب الذين آثروا العلم على الزواج» وهو كتاب يجذب كل قارىء إلى محتواه، ولو ترجم إلى بعض اللغات أحدث من الدهشة ما يبهر كل قارىء.

ومن أعظم ما في الكتاب تحقيقاته الهامشية التي قد تطول وتمتد، وفي كل سطر بل في كل كلمة، بل في كل حرف مجال رائع للنظر الدقيق ومن ألطف الأمور أنه يعتذر عن الإطالة الدسمة المنتقاة فيقول (ص 79): «ومعذرة من الإطالة في تصويب هذه الكلمة مع أن هذا التصويب قد عصف بآراء تداولها الناس وكادت تكون من المقررات.

ومما انفرد به هذا الكتاب تراجمه الدقيقة لنفر من المعاصرين كالشيخ خليل الخالدي، وبشير الغزي، وسعيد النورسي ومحمد الكافي، وليتني قرأتُ هذا الكتاب من قبل لأني عانيت معاناة صعبة في ترجمة الأستاذ شكري الألوسي والنورسي سعيد قبل أن أعلم شيئاً مما كتب أستاذنا أبو غدة.

[الذي] يطبع الكتاب عدة طبعات، وفي كل طبعة يزيد ويزيد حتى يكون الفارق بين الطبعة الأولى والرابعة فرق بين الطفل والكهل، وهو توفيق إلهي أمده الله تعالى به، ولا أجد في مجال التربية أروع من هذا الكتاب وسابقه، وقد شغلني لبابه عن الإشادة بالمقدمة العلمية الرائعة التي فصل فيها الشيخ بين العزوبة والزواج فكان في حديثه الدقيق يقظاً حذراً و كأنه يمشي على الصراط، وقد اجتازه إلى الحسنى بإبداع وإقناع.

وأختم البحث بكلمة عن كتاب: «الرسول المعلم وأساليبه في التعليم» ولعله آخر ما صدر عن الأستاذ مطبوعاً كما أظن، وهو كتاب جيد في بابه، لأنه اشتمل على أساليب التعليم النبوية مستمدة من كتب السنة، سواء كانت هذه التعاليم أقوالاً أو أفعالاً، وهذه النصوص أساس لبناء يجب أن يتعهده المربون بأساليب البحث النظري في فصول مستقلة تجري مجرى البحث المنهجي مقدمة وعرضاً وخاتمة، فقد قدَّم لهم المصنف عناصر التربية النبويَّة في أحاديث أحسنَ توثيقها والتعليق عليها، وأقول التعليق عليها، لأن الشيخ لكثرة قراءاته قد كان سريع الاستشهاد بما يناسب اعتراضاً و جواباً، وإجمالاً وتفصيلاً، وقد يُسهب في النقل من كتب التراث الإسلامي لأعلام المربين من أمثال: الماوردي وابن حزم والغزالي، ثم يستشعر الإطالة فيحاول أن يعتذر، وذلك أدب نفسي ألحظه في كثير من حواشيه، وقد طربت طرباً شديداً لتعليق نادر صادفني حين قرأت ما كتبه عن حديث رسول الله في رواية مسلم عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: «والذي نفسي بيده، لايؤمن عبد حتى يحب لجاره أو لأخيه ما يحب لنفسه» فعلَّق المؤلف بهذا القول النادر:

قال العلماء المراد بالأخ في قوله «حتى يحب لأخيه»، عموم الأخوة حتى يشمل الكافر والمسلم فيحب لأخيه الكافر ما يُحب لنفسه من دخوله في الإسلام كما يحب لأخيه المسلم دوام الإسلام وأنا أرى أنَّ المحبة لا تقف عند الدخول في الإسلام بل تتجه إلى كل خير يصيب الإنسان - أيّاً كان - ما دام لا يصيب أحداً ما بسوء (1).

لقد كتبت هذا معجلاً، وكأنَّ سائقاً يدفعني، وهذا ما لا حيلة لي فيه، إذ في بعض الأحيان أمسك القلم فلا أتلبث حتى أفرغ ما يملأ خاطري، ولو تمهلت لتمَّ الأمر على أحسن مما كان، لذلك أرجو أن أعود إلى قراءة آثار أبي غدة مرة ثانية فقد تنفحني بالجديد، راجياً ما رجاه الطغرائي حين قال:

لعلَّ إلمامة بالجِزْع ثانية=يهبُّ منها نسيم البرء من عللي

وعلى الله قصد السبيل.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

المصدر: مجلة الأزهر، مج٧٠، ع١، سنة ١٤١٨هـ/١٩٩٧م، ص ٧١ – ٧٧

(1) الرسول المعلم ص 167.

الحلقة السابقة هــنا