من أعلام الأزهر: الشيخ عبدالفتاح أبو غدة (2)

هذه الترجمة الموجزة التي كتبها الوراق الطلعة الأستاذ زكي مجاهد، تقدم خُلاصة أرشيف حكومي يوضع في سجل الشيخ، وقد فات صاحبها أن يتحدث عن جهاد الداعية في وطنه، حين كان بطلاً من أبطال حرية الرأي في دمشق وحلب، وحين جلجل صوته في المجلس النيابي داعياً إلى تطبيق شريعة الإسلام، وهي صحائف خالدة طاهرة، لم تدون للآن على وجهها الصحيح، ولكن ذوي الإنصاف يعرفونها حق المعرفة، ويذكرون صاحبها ذكراً مضمخاً بالعبير، وقد أتيح لي أن أسعد بلقاء الأستاذ في فترات قصيرة حين كنت مبعوثاً للأزهر في كلية اللغة العربية بجامعة الإمام محمد سعود، وكانت تلاصق كلية الشريعة التي يعمل بها الأستاذ، فكنا نتلاقى تلاقياً عابراً في ساحة الجامعة، وفي مكتبتها، وقد لمست من فضله وعلمه ما بهرني حقاً، وإذا كانت كتبه الشهيرة تنطق بعلمه، فإن سلوكه العلمي واتجاهه الخلقي في حاجة إلى تسجيل، حيث استطاع الرجل العلَّامة أن يكون واسطة عقد لكوكبة من أولي الفضل أساتذة وطلاباً، يردون مكتبته، ويسمعون توجيهاته، وينتسبون إليه في مجال البحث والتنقيب، وهي مسئولية كبرى تلقى على عاتقه خارج الميدان الجامعي، إذ لا ينتسب إليه في هذا المجال إلا الباحث الحقيقي لا الطالب الرسمي، ومع هذه الحفاوة البالغة بعلم الأستاذ وفضله، فأنا أعلم أنه لاقى صعوبات جمة من نفرٍ لا يروقهم أن يتحدث تلميذ عن أستاذه، وإذن فحديث أبي غدة عن الكوثري وسعيه في نشر مؤلفاته جريمة يجب أن تكون موضع الملامة لدى هؤلاء، وكنت قد عارضت بعض آراء شيخنا الكوثرى في مقال لي، فجاءني مَنْ يمدح المقال ويقول: إنه صدمة للشيخ أبي غدة، فصرخت في وجهه، وقلت يا أستاذ: أنت لا تعرف الإمام الكوثري ولا الأستاذ عبد الفتاح، فهما في مستوى لا أرقى إليه. ولا أحسبك تدركه! قال: ولم خالفت الكوثري! قلت: مخالفة التلميذ لأستاذه في مجلس الدرس، وهو يعرف أنه ينهل من حياضه، ويقتبس من نوره، فخرج الناقد المتعجل غاضباً، وهنا أدركت أن الشيخ أبا غدة يلاقي بلاء أي بلاء من أدعياء المعرفة، فحرصت على أن أشيد به في كل مجلس، وهو لا يعلم هذا لأني أنشد الحق دون اهتمام بعمرو أو زيد، ولكنَّ الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها  ائتلف، وما تناكر منها اختلف، فقد أدرك الرجل بإلهام البصير ما أكُنه له من حب، فكنت أتلقى سلامه على البعد شاكراً، أبادله مثله صامتاً، وهو مذهب خاص بنفر من الناس تتعارف لديهم الأرواح، ولا تتلاق الأشباح.

كانت أنباؤه العلمية تفد إليَّ، فكان أعجب ما أعجب من أمره هو صبره الملح الدائب فصادف من ذوي الفضل في هذه الربوع الشاسعة من يجتمعون لعالم واحد إلا في الندرة النادرة، وقرأ من نفائس المخطوطات عربية ودينية ما عز على غيره أن يسمع باسمه، فضلاً عن أن يقرأ صحيفة منه، وأذكر أنه روى عن علماء الهند من التحف العلمية ما كنت غير متصور لوجوده، كما تحدث عن أئمة هناك، لم تصل إليَّ أسماؤهم فضلاً عن مؤلفاتهم، وبسبب ما كتب عن هؤلاء أخذت أحاول التعرف إليهم، وأجمع ما أستطيع جمعه من أخبارهم، وهيهات أن أصل إلى بعض ما يعلمه الرجل الكبير عن هؤلاء الكرام.

وما زلت أذكر قول صديقي الأستاذ الدكتور عبد القدوس أبو صالح منذ ثلاثين عاماً عن الشيخ أبي غدة بأنَّه من كبار شيوخ الحديث في هذا العصر، وقد كان هذا منذ زمن بعيد، فماذا يقول عنه الآن، وقد بلغت مؤلفاته في الحديث وحده، ثلاثين مؤلفاً، وقد طالعت قائمة مؤلفات الأستاذ في خانة «تحقيق اسمي الصحيحين واسم جامع الترمذي» فوجدتها تجمع أكثر من خمسين كتاباً، كلها مما يفيد الدارس البصير، فضلاً عن المتصفح العجول، ففيها كتب ضافية، عن الجرح والتعديل، وعن تمييز الفتاوى عن الأحكام للإمام القرافي، [وهو كتاب نادرة في موضوعه واتجاهه]، وعن فقه أهل العراق، وعن مسألة خلق القرآن، وعن فقهاء العالم الإسلامي في القرن الرابع عشر، وعن منهج السلف في السؤال عن العلم، بل إنها ضمّت مؤلفات عن الأدب والخط مثل شرح قصيدة أبي الفتح البستي، والترقيم وعلاماته في اللغة العربية، وتصحيح الكتب وصنع الفهارس المعجمية، وهذا غيض من فيض.

وسأحاول أن ألم إلمامة موجزة ببعض كتبه في الحديث ليدل المذكور على المطوي، فأشير أولاً إلى كتابه:

«لمحات من تاريخ السنة وعلوم الحديث» لأنَّه كتاب يُفيد المثقف والمتخصص معاً لقرب تناوله، وسهولة سياقه، سهولة لا تخش حق المضمون المقرر من قضايا العلم، إذ تحدث المؤلف في نصاعة شفافة عن مقام السُّنة المطهرة من كتاب الله، وموقعها من الشرع الحنيف، وهو حدىث كرره الأستاذ في أكثر من كتاب ؛ لأنَّ الحملة الكاذبة على حُجيَّة السنة منذ بزغ قرنها الشيطاني في أوائل هذا القرن على يد المستشرق المجرى «جولدزيهر»، قد وجد من الأذناب من حاول تقرير باطله مضخماً، حتى اقتنع بعض القراء بهذه المحاولة عن قصور فهم، فقام من سدنة الحديث من أقروا الحق، وفي طليعتهم السيد محمد رشيد رضا، وجمال الدين القاسمي، وهما من جيل الأساتذة الذي ينتمي علماء هذا الجبل إلى مشيختهم النافعة، وجاء جيل الأستاذ عبد الفتاح فكفى وشفى.

يتبع...

الحلقة السابقة هــنا