من أسرار غزوة الفتح

العلامة الشيخ البهي الخولي

متى فتحت مكة؟

 

تقول كتب التاريخ أنَّ مكة فتحت في الثامن عشر من شهر رمضان للسنة الثامنة من الهجرة إذ سار إليها النبي صلى الله عليه وسلم على رأس جيش قوامه عشرة آلاف مقاتل، فاستولى عليها، ولكن نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية والتأمل في ظواهر الأحداث، كل ذلك يشير إلى غير ما يقول التاريخ ، إذ يوجِّه الذهن إلى أن مكة فتحت قبل ذلك بعامين اثنين في السنة السادسة من الهجرة في الظروف التي عقد فيها صلح الحديبية...

 

ولكنَّ المعروف لقرَّاء التاريخ أن صلح الحديبية لم يكن فيه فتح ، بل لم يكن فيه قتال ، إذ كفَّ الله المسلمين عن المشركين، والمشركين عن المسلمين وعُقد بينهما صلح لم يكن موضع رضا المسلمين يسمى صلح الحديبية... فكيف يقال أن مكة فتحت في ظروف هذا الصلح الذي لم يحصل فيه قتال....  والذي ظلت مكة بعده في أيدي أهلها عامين اثنين إلى أن دخلها جيش النبيِّ صلى الله عليه وسلم في السنة الثامنة؟

ويزداد هذا التساؤل قوة حين نعرف أنَّ ظروف هذا الصلح تتلخَّص في أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان قد رأى في منامه أنه دخل المسجد الحرام بمكة وطاف به ، و كان يحدثِّ أصحابه بأن تلك رؤيا حق...

ثم بدا له في ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة أن يخرج في جمع من أصحابه لأداء عمرة يطوفون فيها بالكعبة ويسعون بين الصفا والمروة ، وينحرون هديهم في الحرم ويعودون... فخرج في ألف وأربعمائة من أصحابه ليس معهم من عدة الحرب شيء إلا السيف في القراب... وساقوا معهم هديهم أي : الإبل التي سينحرونها هدية لله في ا لحرم ... وفي الطريق لبسوا ملابس الإحرام إذ أحرموا بالعمرة ... ولكن قريشاً أخذتها حمية الجاهلية ، وقالوا: والله لا يدخل بلدتنا علينا عنوة أبداً ، ولن ندع العرب تتحدث بذلك فتعاهدوا بينهم أن يكونوا يداً واحدة في مدافعته وقتاله عن معقل مجدهم ، وقرروا أن يخرجوا إلى قتاله ومعهم نساؤهم بأطفالهن ، ليكون ذلك أدعى للثبات ومضاعفة حمية القتال...

ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيره الحديبية ـ وهي مكان قرب مكة ـ نزل بأصحابه ليعالج شأنه مع قريش ، فأرسل عثمان بن عفان رضي الله عنه إلى أهل مكة ليخبرهم أنَّ المسلمين لم يجيئوا لقتال ، بل جاءوا للعمرة ، وسيرجعون بعد أدائها... وبقي عثمان رضي الله عنه بمكة مدة طارت الإشاعات أثناءها بين المسلمين بأن قريشاً قتلت سيدنا عثمان... ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهيئ نفوس أصحابه للقاء القوم ، فدعاهم إلى البيعة ، فتواثبوا إليه ـ وهو تحت شجرة كانت هناك ـ فبايعوه في حماسة وشوق إلى الله.

وكان أول من بايعه أبو سنان الأسدي ، إذ قال : ابسط يدك أبايعك يا رسول الله ، فقال عليه السلام : (علام تبايع؟ ) فقال: أبايعك على ما في نفسك ، أضرب بين يديك لا أفر.

وفي روعة البيعة ورحانيتها العالية .ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان رضي الله عنه، فأراد  أن يكون له نصيب من شرف البيعة ورضوانها فقال : (اللهم إن عثمان في حاجتك وحاجة نبيك) وضرب بإحدى يديه على الأخرى مبايعاً عن عثمان ، فكانت يد رسول الله لعثمان خيراً له من يده.

وأرسلت قريش خلال ذلك رسلاً أحدهم بعد الآخر ليتحقَّق من حال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما تبيَّنوا أنه جاء للنسك والعمرة لا للقتال ، عقدوا معه صلحاً على أن يرجع من عامه هذا لا يدخل عليهم مكة، وأن يعود العام المقبل لأداء عمرته...

وكان من شروط الصلح: أن يردَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كل من يجئه من قريش مسلماً، فيعيده إلى قريش، وأن من جاء قريشاًَ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ترده قريش إليه...

ودخل على المسلمين من ذلك الصلح غمٌّ شديد، وكان عمر بن الخطاب نفسه من أشدِّ المعارضين له ، ولم ينج من المعارضة سوى أبي بكر رضي الله عنه... ولم يكن من رسول الله صلى الله عليه وسلم بإزاء هذه المعارضة إلا أن كان يقول : (أنا عبد الله ورسوله لن أخالفه ولن يضيِّعني).

ذلك صلح الحديبية ، وتلك ظروفه ، ليس فيها حربٌ ولا فتح ، وليس فيه إلا شروط لم تُرضِ طموحَ المسلمين ، فكيف يقال: أن مكة فتحت يومئذ في العام السادس ، لا في العام الثامن كما تقول كتب التاريخ؟

في القرآن الكريم سورة كاملة عن فتح مكة، أنزلها الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم عند انصرافه راجعاً من صلح الحديبية يقول سبحانه في أولها :[إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا] {الفتح: 1-2} . وفي هذه السورة جواب ما نسأل عنه ... فيها جماع أسرار الفتح التي نحاول تجلية بعضها في هذا المقال.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين