من أسرار غزوة الفتح -4-

 

للعلامة الشيخ : البهي الخولي

ونحن الآن في ساحة الحديبية قد جمع الله بين فريقين: أحدهما مقطوع له بالهزيمة لا محالة ، إذ جاء وحميتها تعتمل في قلبه...

والآخر مقطوع له بالنصر لا محالة ، إذ جاء وجند الله من حوله ، وعجائب الطاقات تملأ فؤاده ، والله سبحانه يقول في ذلك :[إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى المُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا] {الفتح:26} .

وإذا صرفنا النظر عن شهادة الله للمسلمين بأنهم أهل كلمة التقوى ، فلن تستطيع صرفه عن ذلك التدبير الإيجابي الذي تولَّى الله به أمر المسلمين ، وأي إيجاب أبرز من قوله سبحانه : (أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى) فهذا الإلزام الرفيق مع إنزال السكينة معنى تلمح فيه القلوب أنَّ الله سبحانه تناول زمام الأمر من أيدي المسلمين ، فهو وليُّهم وقد وكلهم إلى تدبيره...

وأما الآخرون فقد وكلهم إلى أنفسهم ، وذلك واضح في الآية الكريمة إذ أسند الفعل بالنسبة للكفار إلى أنفسهم... وأسنده بالنسبة للمسلمين إليه سبحانه، وذلك غاية ما يجتمع من ذروة التأييد وحضيض الهزيمة في آية واحدة ، [ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَأَنَّ الكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ] {محمد:11}  .

وكان الله سبحانه يؤكد حال الفريقين ـ وقد جمع بينهم هذا الجمع ـ بقوله :[هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَالهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ] {الفتح:25} . فليس مراد الله سبحانه أن يخبر المسلمين بمضمون ظاهر الآية ، فقد خبروه وشهدوه ، ولم يغب منه شيء عنهم ... بل المراد تقرير صفة كل فريق وحاله التي ترشِّحه للهزيمة أو النصر... ففريق كفر بالله ، ورسول له شؤمه أن يصعد عن الحرام إلا من جاء معظِّماً له... ومع أنَّ الآية لم تذكر حرفاً واحداً من صفة الفريق الآخر ، فإن نظمها المعجز قد ذكر عنهم كل شيء ، بضمير المخاطب في قوله تعالى : (صدوكم) ، فقد دلَّت الكاف على صفة الإيمان فيها، لأنها ذُكرت في مقابلة (الذين كفروا) ودلَّت على شرف وجهتهم لأنهم صدّوهم عن المسجد الحرام ، ولم يصدوهم عن شيء آخر... بهذا الهدي المعكوف لأنه رمز ما في قلوبهم من اتجاهات البذل لله ، والتقرب إليه بإهداء كرائم الأموال...

ذلك هو مراد الله سبحانه ...  ولم يعد هناك شك في النتيجة المحتومة ، ولم يبق إلا أن تقع الأحداث التي تترجم هذا المعنى الغيبي إلى معركة دموية يلتحم فيها الجمعان، وتنتهي بفتح مكة في عالم الحس بعد أن فتحت لهم في عالم القدر النافذ...

ولكن!! ولو لا!!

ولكن ماذا؟ لماذا لا تقع الأحداث ويلتحم الفريقان؟ هذا ما تجيب عنه بقية الآية الكريمة التي أوردنا بعض خفايا نظمها المعجز ، فلنعد قراءتها كاملة :[هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَالهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ] {الفتح:25} .

عبارتان تبدوان في ظاهر أمرهما منقطعتي الصَّلة ، منفصلتي المعنى ، لكن الصلة وثيقة، فالعبارة الأولى قد تضمَّنت من كفر العدو وبغيه ما ينبغي قتاله عليه ، ولكن في مكة طائفة من المؤمنين والمؤمنات لا يعلمها أحد لاستخفائها بالإيمان ، ولولا وجود هؤلاء بين الكفار لسلَّطناكم عليهم: [لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا] {الفتح:25} .

على أن رعاية جانب المؤمنين المجهولين لم تكن وحدها حكمة الله في العدول عن القتال وإقرار صلح الحديبية مكانه ، بل أراد الله سبحانه برحمته ـ إلى جانب ذلك ـ أن يفسح للمشركين فرص التَّدبر ومراجعة العقل لعلَّ أن يهتدوا لنور الله فتشملهم نعمة الإسلام بدل أن يُقتلوا مغضوباً عليهم في غير رحمة.

وهذا الذي قد حصل فعلاً على نحو ما نعرف من دخول قريش بعد ذلك في الإسلام، وكان مصداقاً لقول الله تعالى في الآية نفسها :[هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَالهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا] {الفتح:25} .

لقد أخذ الله زمام الأمر من المسلمين يدبِّره لهم بما فيه الخير على النحو الذي أسلفنا ، وهو نحوٌ لم يفطنوا إلى حكمته فعارضوه ، ودخلهم منه من الضيق ما دخلهم ، وحسبنا أنَّ عمر ـ الذي جعل الله الحقَّ على لسانه وقلبه ـ قد غابت عنه الحكمة ، وعارض الصلح كما عارضه سواه... وبينما هم عائدون نزلت سورة الفتح تقرر : [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا] {الفتح:1} . أي : فتحاً بدون قتال كما رآه الضحاك ، وروى الإمام أحمد أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم حين نزلت عليه : أو فتح هو يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إي والذي نفس محمد بيده إنه لفتح)...

ومضت السورة الكريمة تخاطب سرائر المؤمنين بلوائح النصر والظفر الذي تمَّ بدون قتال :[وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ] {الفتح:24}  .وتبيَّن لهم أنهم عائدون من ظفرهم هذا بغنيمة معجَّلة ، وفتح محقَّق : فيه أعظم العبر والآيات : [وَعَدَكُمُ اللهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ] {الفتح:20} .

فقوله تعالى : [فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ] {الفتح:20}  : هو من أعجب الإشارات إذ لم يكن في أيديهم يومئذ شيء يشار إليه إلا الكرب الذي يُبلبل خواطرهم ، وهو لا عبرة فيه ولا غنيمة ، فانصرفت الإشارة إلى ما خَفِيَ عنهم وراء أسبابه من عجائب الفتح والتدبير، وسماه الله غنيمةً وجعله آيةً للمؤمنين.. ولا يتقرَّر له هذا الوصف إلا إذا كان فتحاً جرى على غير مألوف الفتوح...

قال الإمام القرطبي ، قال جابر رضي الله عنه : (ما كنا نعدُّ فتح مكة إلا يوم الحديبية).

وظلت سورة الفتح تقرأ عامين بعد ذلك، اتّخذت خلالهما وثيقة الفتح سبيلها فيما قدَّر الله لها من إجراءات التنفيذ...  حتى إذا بلغ الكتاب أجله ، ولم يبق إلا أن يتسلم صاحب القدر الموعود أمانته ، جرى القلم فنقضت قريش عهدها الذي عقدته يوم الحديبية ، لأمر يريده الله تعالى ، في ساعة ضلَّ فيها النُّهى ، قالت عائشة رضي الله عنها : أترى قريشاً تنقض العهد الذي بينك وبينها يا رسول الله ؟ قال : (نعم ينقضون العهد لأمر يريده الله) والأمر الذي يريده الله هو الإجراء الأخير لنضج الثمرة وتسلَّم  الأمانة التي قدرت له من عامين... وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بجيش يبلغ عشرة آلاف مقاتل في عدَّة الحرب الكاملة ، فإذا بمكة تلقي بنفسها بين يديه كأنما كانت معه على ميعاد.

ويعجب المتأمِّل لهذا البون الشاسع بين قريش يوم الحديبية ، وقريش يوم تسليم مكة ، لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية في ألف وبضع مئات فقط لا يريدون قتالاً.

فإذا هي تفظن له، وهو في بعض الطريق ، فتنهض له ، وتلبس جلود النمور ، وتخرج بالعوذ المطافيل أي : بالنساء ذوات الأطفال ليكون ذلك أجدى في مدافعته عن معقلهم... أما اليوم فهو صلى الله عليه وسلم  خارج إليهم بعشرة آلاف لا بألف واحد... مقاتلاً غير معتمر ، فلا يفطن أحد لخروجه ، إذ يأخذ الله على أسماعهم حتى يدخلها  عليهم ، مفتَّحة الأبواب ، ويتسلَّم مفاتيح كعبتهم ، فلا يكون منهم كبير عناء إلا أن يلتمسوا الأمن والأمان ، فينادي مناديه: من دخل داره فهو آمن... ومن دخل الكعبة فهو آمن... فما معنى هذا ؟

أين حميتهم التي هبَّت بهم دفاعاً عن معقلهم يوم الحديبية؟وأين جلود النمور ؟ وأين العوذ المطافيل ؟؟!! لا شيء من ذلك فالبلدة قد سلمت ، ولم تُرق من أجل دخولها أو من أجل الدفاع عنها قطرة دم واحدة!!

فما معنى هذا ؟ هل هو شأن المدينة المتربصة المتحفزة للقتال؟ أم هو شأن مدينة أخرى قضى لها قضاء آخر فهي تنتظر نفاذه ؟

 إنَّ شأن مكة المكرمة يومئذ معه عليه الصلاة والسلام كان شأن المدينة المنتظر لقادم موعود ، ليتسلَّمها من يد القدر ، لا من يد أهلها ، إذ لم يعد لها أهل غيره منذ عامين.

رزقنا الله حُسْن القدوة، وأحيا قلوبنا بمعرفته ، وهدانا جميعاً سواء السبيل.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

المصدر : مجلة منبر الإسلام ، السنة الثامنة عشرة رمضان 1380، العدد 9.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين