من أسرار غزوة الفتح -3-

 

العلامة الشيخ البهي الخولي

وهذه الحقيقة الكبيرة هي قطب معاني السورة ، ومنها تتفرع الأصول التي قامت بها أسرار الفتح ، فإننا نستطيع أن نستخلص منها الحقائق والمبادئ الآتية:

أولاً :  أنَّ الإنسان في ظاهره مخلوق مادي ، وفي باطنه حقيقة روحية أو وجود ربَّاني ، وأن المعوَّل عليه عند الله تعالى هو (الكائن الروحي) لا الظاهر المادي ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (إنَّ الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) ... فحياة الإنسان في الحقيقة هي حياة هذا الكائن الباطني ، وهلاكه هو هلاك هذا الباطن ، ولذا رأينا القرآن الكريم يصف الأعراب ذوي القلوب الميتة بأنهم (قوم بور) والبور جمع بائر وهو : الهالك.

ثانياً : أننا بصدق مشاعر الإقبال على الله والاستمداد منه ، إنما نستنزل ما عنده سبحانه من حياة وقوة وخير ونصر ...فهي تمثِّل حركة الشهيق التي نسحب بها الهواء لرئتينا ، فكلما نشأت للإنسان إرادة في الحق أو هاجت به رغبة فيما عند الله ، فقد استدرج بها لوجوده الروح قوة ومدداً لا قيام للباطل بإزائها...

ويقابل ذلك أن الإنسان كلما يسر له إثم أو رغبة في باطل، أو أقام أمراً من أموره على الجهل بالله وسوء التقدير لشأنه ، فقد استدرج لنفسه أسباب خذلانه ، و عوامل هلاكه ، فهؤلاء الأعراب الذين ظنُّوا بالله العجز عن إمداد أوليائه بالنصر ، جعلهم الله مثلاً لكلِّ من سلك سبيلهم وأخذ أخذهم ، و ما أحكم ما يصف سبحانه حال من يحيط به هذا الظن المهلك بقوله :[وَيُعَذِّبَ المُنَافِقِينَ وَالمُنَافِقَاتِ وَالمُشْرِكِينَ وَالمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ] {الفتح:6} . أي : أن ظنهم واقع عليهم ، محيط بهم إحاطة الدائرة بما في داخلها ، فلا هو يجاوزهم إلى سواهم، ولا هم يجدون سبيلاً إلى الفكاك منه ، و ذلك أسوأ ما يحيق بالإنسان من خذلان وهلاك...لذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُوصي بقوله : (لا يموتنَّ أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله).

ومن البديهي ـ بناء على هذه القاعدة الروحيَّة الأصيلة ـ أنه إذا التقى أهل الإيمان والاستمداد الدائم من الله ، بأهل الباطل المخذولين ، فالغَلَبة مقطوع بها لأهل الحق من قبل أن يلتقوا بخصومهم ، لأنَّ كلاً منهما قد قضى في أمره بمجرد أن علق إرادته بحق أو باطله ، والله سبحانه يقرِّر في سورة الفتح أن ذلك هو سنته النافذة الباقية بقوله :[وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا] {الفتح: 22-23} .

فإذا رحنا نلتمس تصديق هذا الاصل ، أو تطبيق هذه السنة ، فيما بين أيدينا من أنباء سورة الفتح رأينا المسلمين قد أخذوا بكل أسباب التأييد والنصر ... ورأينا المشركين قد أخذوا بكل أسباب الخذلان والهزيمة.

فالمسلمون قد خرجوا من ديارهم راغبين في الله ، يريدون النسك والعمرة، وساقوا معهم ما ساقوا لله من هدايا  الهدي...وتلك رغبة في الله أو (حركة شهيق) يستدرجون بها لوجودهم الربَّاني ما يستدرجون من روح التأييد والقوة... أما المشركون فقد يُسِّروا لما يُسِّروا له من أسباب الخيبة حين أخذتهم الحميَّة الجاهلية، فقاموا يصدُّون عن بيت الله من جاءوه معظِّمين لحرمته... فأيُّ إثم أشنع من هذا الإثم؟.

ذلك إلى أنَّ بيعة المسلمين تحت الشجرة كانت رغبة عظيمة فيما عند الله ، أو (حركة شهيق) واسعة المدى، استنزلوا بها مالا يقدر قدره من أسباب التشريف وطاقات القوة... وأيُّ تشريف أجل من قوله تعالى :[إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ] {الفتح:10} .وأي قوة أقدر وأقوى مما أنزل الله على قلوبهم في قوله سبحانه : [لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا] {الفتح:18} .

ويزيد من شأن هذه البيعة ، أنها في معنى البيع فأيُّ صدق في الله أنصع وأروع من قوم أقبلوا على سفير الله ورسوله ، يضعون أيديهم في يده بصفقة يبيعون فيها نفوسهم في موقف كانوا فيه قلة عزلاء لا حراب ولا دروع ، ولا درق ، أمام قوم قد لبسوا لأمة الحديد كاملة؟!

إنَّ هؤلاء حقيقون عند الله بمدد فوق التأييد الروحي ، والسكينة القلبية ، ولذا نراه سبحانه يقرر : [هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَللهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا] {الفتح:4} .

على أنَّ البيعة تنطوي على شيء آخر هو الذي سجَّل الفتحَ في سجل القدر النافذ... فالبيعة من البيع ، وهي مجرد صفقة يبيع المؤمن فيها نفسه بأن له الجنة على ما قرر الله سبحانه :[إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ] {التوبة:111} . وتلك صفقة خير يبيع فيها المرء ويشتري مع الله تعالى ، ولا يتعلق فيها طموحه إلا بالعوض ، أو الثمن الذي باع به نفسه ، ولا يوجب الله بها على نفسه سوى الجنة...

والبيعة على هذا المعنى عقد يوثقه الإنسان مع الله سبحانه في كل وقت طموحاً إلى الثمن النفيس ، دون أن يكون في ذهنه شيء من خواطر الاستيلاء على الأمصار وفتح المدن، ولكن بيعتنا هذه بالذات اقترنت برغبة عزيزة على أصحابها ، فإنهم خرجوا ووجهتهم مكة لله ، فاعترضهم القوم ... فدعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى البيعة على القتال وعدم الفرار ، ولم يكن هناك من داعية للقتال في أذهانهم سوى دخول مكة عنوة... أي : فتحها... فاضطرم الشوق في أفئدتهم ، واقترنت البيعة برغبة حارة في فتح المعقل الخالد ، ومن القوانين الروحية المقررة لدى الله سبحانه: أن رغبات أهل الصدق ، قدر نافذ لا محالة... [وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ المُحْسِنِينَ] {الزُّمر:34} . وفي اللحظة التي كانت فيها الرغبة تعتلُّ شوقاً في القلوب كتبت وثيقة الفتح ، وسجلت الرغبة في سجلات القدر النافذ.

كتبت الوثيقة وطبعها القلب الربَّاني بطابعه، وصعدت إلى حيث يصعد الكلم الطيب لتتخذ سبيلها في إجراءات التنفيذ...

***

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين