من أسرار غزوة الفتح-2-


العلامة الشيخ البهي الخولي

-2-

وعجائب الفتح وغرائب الأحداث لا تتاح للناس سدى ، بل هي سنن مقدورة لا تستجيب إلا لمن أخذها بحقِّها ، فإذا كانت سنن الطبيعة في تسخير الهواء والماء والبخار والكهرباء ـ مثلاً ـ تتأتى على الجهل ، ولا تستجيب إلا لمن عرف حقها وراضها بالعلم والخبرة فكذلك سنن الغيب الروحي تتأبى على الجهل ولا تستجيب إلا لمن راضها بالعلم والخبرة... غير أنَّ العلم هنا هو العلم بالله والإيمان به سبحانه ، لا العلم بقضايا المادة وقوانين الطبيعة...

والجهل هنا ليس هو الجهل بقضايا العلم الطبيعي ، بل هو الجهل بالله ، وخلو القلب منه سبحانه.

فإذا آمن المرء بالله وعرف قدره في تصريف الكون ، وأن بيده زمام كل شيء ، صرف إليه رجاءه ، وحسن فيه ظنه، وأخلص قلبه من كل هوى طائش وشهوة باطلة ، وهنا يتحقَّق للمرء وجوده الربَّاني ، وبهذا الوجود الربَّاني يتصرَّف في سنن الغيب الروحي ، ويكون نافذ المشيئة بإذن الله ، أما إذا كان جاهلاً بالله ، مطموسَ البصيرة، فإنَّ ظنه بالأفق الإلهي لا يتعلق منه بخير ولا شر ، إذ لا يتصور أنه مصدر لأيِّ ترجيح أو أثر إيجابي ، وذلك هو الخذلان المحض ، وإن شئت فقل: إن مثل هذا قد جنى على (وجوده الرباني) ، فهو معزول عن سنن الحق العاملة في هذا الوجود... ونحن نقرأ ذلك المعنى الدقيق في دقائق سورة الفتح فإن الرسول صلى الله عليه وسلم حين خرج بأصحابه إلى الحديبية، طلب إلى الأعراب المقيمين حول المدينة، مثل غفار ومزينة وجهينة، أن يخرجوا معه فتباطأ عنه أكثرهم فلما بدأ عودته من الحديبية، ونزلت عليه سورة الفتح، ذكر الله تعالى فيها هؤلاء الأعراب بقوله :[سَيَقُولُ لَكَ المُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ] {الفتح:11} .

وأعلن سبحانه حقيقتهم بقوله :[بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا] {الفتح:12} .أي أن سوء تقديرهم لشأن الله عزَّ وجل سوَّل لهم أن القوة الماديَّة وحدها أساس النصر والغلبة ، فساء ظنهم بالمصير الذي سيلقاه المسلمون لأنهم قلة مضيعة لا سلاح لها ، وأنَّ قريشاً لن تلبث أن تحيط بهم ، فلن يفلت منهم أحد... وذلك هو عبرة الآية إذ تنص على أن تلك الظنون الفاسدة الجاهلة التي سمَّاها القرآن (ظن السوء) إنما تمحق الوجود الربَّاني ، لصاحبها فإذا هو من الهلكى ، لأن (القوم البور) الذين تذكرهم الآية هم : القوم الهلكى على ما تنصه كتب اللغة...

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين