من أسرار دمشق عاصمة الثقافة 2008
شمس الدين لعجلاني
سطرت سورية إلياذتَها الخالدة على مر العصور بروعة رجالاتها وبطولة أبنائها، ففي كل زاوية بطولة، وتحت كل حجر قصة، وتاريخنا يعبق بقصص وحكايات تروى لتكون مثلا لنا ولأولادنا وأطفالنا ليتذكروا دائمًا عظمة سورية بلد التاريخ والحضارة.. ودمشق عاصمة سورية القديمة قدم التاريخ دمشق التي يعرفها كل العرب فهي المدرسة التي خرَّجت قادة عربًا، دمشق التي يعرفها القاصي والداني، وتنثر عطر ياسمينها بين الأرض والسماء، فتنبئ بأنها باقية عبر الأيام تسطر إلياذتها الخالدة في الحب والعطاء...
دمشق سِفْر مفتوح نقرأ فيه قصصًا وروايات، سرًّا وأسرارًا، نقرأ في سفر دمشق حكايات لها أول وليس لها آخر... ونستمر في قراءه أسرار دمشق...
الإضراب الستيني والحرامية والنساء:
يقولون: إن شركة كهرباء دمشق الخاضعة لسلطة الانتداب الفرنسي، قامت برفع أجرة (الترامواي) نصف قرش، فأثار هذا الإجراء حمية زعيم الشباب فخري البارودي مع الكتلة الوطنية، فأعلن حملة احتجاجات على سلطات الانتداب الفرنسي انطلقت من دمشق لتشمل سورية من بابها إلى محرابها، ولتتحول مظاهرات الاحتجاج إلى المطالبة بالاستقلال ورحيل المستعمر.. مواطنون عاديون، عمال وفلاحون، طلاب ومثقفون، نساء ورجال، الكل كان له أثره ومكانه في الإضراب الستيني. الذي كان أعظم وأطول إضراب جرى في العالم آنذاك...
انطلقت شرارة الإضراب الستيني مع بداية عام 1936م، بعد اعتقال فخري البارودي ونفيه إلى الجزيرة في الشمال, وبعد أن تبعه في الاعتقال والنفي آخرون.
أغلقت الحوانيت والمحال أبوابها، واستمر هذا الإضراب قرابة ستين يومًا، لذا عرف بالإضراب الستيني نسبة للمدة الزمنية التي استمر فيها، عدد من طلاب جامعة دمشق قاموا بالوقوف على جسر فكتوريا لمنع وصول الطلاب إلى الجامعة، ومجموعه أخرى من الطلاب تنشر قوائم سوداء تضم أسماء الطلاب الذين يداومون على الجامعة، وهذا دعا وزير المعارف آنذاك حسني البرازي لتعليق الدراسة في الجامعة. العمال والموظفون امتنعوا عن الذهاب إلى مراكز عملهم، ومن كان يذهب إلى عملة فكان لتسيير الأمور والأعمال الضرورية، المحال التجارية أغلقت أبوابها، أضربت سورية عن جميع الأعمال التجارية والصناعية إضراباً عاماً شاملاً.. الوطن السوري وقف وقفة رجل واحد في وجه قوات الانتداب الفرنسي؛ مواجهات يومية بين شعب أعزل وبين قوات مزودة بكل أنواع الأسلحة، وشهيد يتلوه شهيد، والوطن يدفع ضريبة الدم من أجل الاستقلال والحرية، وليبقى رافع الرأس يعانق أفق السماء.. وكانت تشتد قوه المتظاهرين صلابة كلما سقط شهيد أو اعتقل وطني (جميل مردم بك، نسيب البكري، محمود البيروتي، سيف الدين المأمون..) استمرت هذه المعارك ستين يوماً، ودمشق مغلقة جميعها من أقصى البلاد إلى أقصاها. وتكونت اللجان الشعبية التي تولت عمليات التموين، وجمع التبرعات وتوزيعها، وكان التجار والأغنياء أسخياء في تبرعاتهم، وأعلن كثير من أصحاب بيوت السكن أنهم أعفوا المستأجرين من دفع أجرة السكن عن تلك المدة، ومر عيد الأضحى والمدن مغلقة ومقفلة، وتبرع الأطفال بعيدياتهم للحركة الوطنية...
نهاية الإضراب:
طلب المستعمر الفرنسي إجراء المفاوضات مع زعماء سورية آنذاك، فتكوّن وفد من الكتلة الوطنية برئاسة هاشم الأتاسي وسعد الله الجابري وفايز الخوري وعبد الرحمن الكيالي وعفيف الصلح.. وجرت المفاوضات بين الكتلة الوطنية والمفوض السامي للانتداب دومارتيل يوم 28 من شباط 1936م في مدينه بيروت حول إيقاف الإضراب وبحث القضية السورية، وفي نهاية المفاوضات أعلن الأتاسي في 2 من آذار 1936م بيانا جاء فيه:
"بعد المحادثات التي دارت بين المفوض السامي ورئيس الكتلة الوطنية والنتائج التي وصلت إليها أصبحنا نعتقد أن القضية السورية دخلت في طور جديد بفضل جهود الشعب النبيل ومثابرته في سبيل حقوقه الطبيعية التي كانت منكرة عليه. وقد وافق الجانب الفرنسي بوثيقة موقعة منه على تنفيذ خمسة أمور جوهرية لم يكن يقرها قبل هذه المحادثات، هي:
1- الموافقة على أن لا تقل حقوق السوريين في المعاهدة العتيدة عن حقوق إخوانهم العراقيين في معاهدتهم الأخيرة مع بريطانيا.
2- تصريح الجانب الفرنسي بأنه ليس له مصلحة ما في تجزئة البلاد السورية.
3- الموافقة على نقل ساحة العمل للعاصمة الفرنسية بواسطة وفد من المواطنين يتولى البحث مع المراجع العليا في باريس.
4- إعادة الحياة النيابية الحرة بأسرع ما يمكن على أساس الانتخاب الشعبي.
5- الإلغاء في الحال لجميع الأحداث التي ولدتها الحالة الحاضرة في البلاد السورية كافة منذ 18 من كانون الأول الماضي أي سنة 1935م إلى الآن، من عفو عن المحكوم عليهم وإعادة حرية المعتقلين وإطلاق سراح الموقوفين وإلغاء التدابير الإدارية المتخذة في معاهد العلم.... ولكي يتمكن الوفد من القيام بالمهمة الشاقة التي توكل إليه نرجو من الأمة النبيلة أن تيسر له جوًّا هادئا فتعود إلى أعمالها بعد عيد الأضحى 1936م الذي نرجو أن يكون فاتحة خير على هذه البلاد...".
الحرامية:
حكايات وقصص تروى عن بطولات بطل شعبي سطرها خلال الإضراب الستيني، وما تحقق بقياده الكتلة الوطنية، ومما يقولون أن السيد أبو أحمد الزيبق تطوَّع لحماية المحلات التجارية من السلب والنهب عندما كُسِرَتْ أقفالُها في محاولة لفضِّ الإضراب الستيني، وأبو أحمد الزيبق شخصية دمشقية مجهولة، لم يذكرها المؤرخون في كتبهم، ولم تؤلف عنها القصص المكتوبة أي رواية، وأذكر أنه نقل عن المرحوم منير العجلاني، أن الزيبق شخصية دمشقية طريفة فهو فقير يأتي بقوت يومه يوميا، وأن العجلاني حين كان نائبًا في المجلس النيابي، وفي أثناء دخوله إلى مبنى البرلمان مرتديًا معطفًا شتويًّا، صادف مرور الزيبق من هنالك، فقال له الزيبق: هل يجوز أن ترتدي يا منير العجلاني معطفًا، وأنا لا أضع على جسمي ما يرد البرد، فما كان من العجلاني إلا أن خلع معطفه وأعطاه إلى الزيبق.؟ ويقول سامي مبيض نقلا عن منير العجلاني: إن الفرنسيين عمدوا -في جملة أعمال القتل والقمع للشعب السوري- إلى خلع أقفال المتاجر لإجبار التجار على فتح متاجرهم خشية تعرضها للنهب.. لكن ما حدث أنه في لقاء جمع بين فارس بك الخوري وفخري البارودي في مكتب الكتلة الوطنية بالقنوات مع شخص يدعى أبو أحمد الزيبق تعهد هذا الأخير بحماية المتاجر.. والغريب أن من حمى تلك المحلات كانوا من المعروفين بأنهم (حرامية).
في حين تقول كوليت الخوري: (في أثناء الإضراب الستيني عام 1936م، وعندما عجزت سلطات الاحتلال الفرنسي عن كسر الإضراب، لجأت إلى كسر أقفال المحال التجارية، وفتحت أبوابها وجعلتها عرضة للنهب. وفجأة ظهر أمام تلك المحلات شباب مفتولو العضلات (قبضايات) ظن الفرنسيون أنهم جاؤوا لينهبوها. وقفوا أمامها دون أن يدخلوها. ذهب وفد منهم لمقابلة قادة الحركة الوطنية. قالوا لهم: بإمكانكم أن تُطمئنوا التجار بأن محلاتهم لن تمس مهما طال الإضراب. لن نسمح لفرنسا أن تكسر الإضراب. من أنتم أيها الشباب الطيبون؟ سألوهم. - قطاع طرق!).
وعن نفس الحادثة يقول عبد السلام العجيلي: ومن أطرف ما جرى أن رئيس عصابة النشل والسرقة وقف في الجامع الأموي معلناً التوقف عن عمله ما دام الإضراب قائماً والمظاهرات مستمرة... ولم تقع جريمة، لا صغيرة ولا كبيرة، في جميع أنحاء البلاد خلال شهري الإضراب، وهذا هو إعجاز الثورات الوطنية التي ترفع الشعب إلى مستويات البطولة والاستشهاد، فقد نشرت جريدة (لو جورنال دوناسيون) في جنيف رسالة لسيدة سويسرية مقيمة في دمشق جاء فيها: (ومع أن الإضراب استمر أكثر من خمسين يوماً فإنه لم يحدث حادث من حوادث الجنايات العادية، وكان الغني يساعد الفقير، وكانت الطبقة المثقفة تقود الإضراب).
النساء:
كانت وما زالت المرأة تمثل عصب المجتمع السوري، ولها أثرها المميز على الأصعدة كافة؛ فهي الأم والأخت والزوجة، والمناضلة، والمقاتلة.. هكذا كانت وهكذا ستبقى.. ومما زاد في تماسك الإضراب الستيني واستمراره اشتراك جميع فئات الشعب حتى النساء والأطفال، وكان للنساء أثر مهم في كل ذلك؛ فقد تطوعت النساء لتأمين الإعانات الغذائية والمادية للأسر التي تضررت من المظاهرات، كما شاركن في المظاهرات المطالبة بالاستقلال، وتعرض عدد من النساء الدمشقيات للاعتقال والسجن، وعندما انتهى الإضراب كان عدد من النسوة في السجن مثل: حفيظة بنت مصطفى اللحام، أديبة بنت محمود العواد، ليلى بنت الشخ سعيد الحلبي، وحيدة بنت عبد الحميد الحموي، حميدة بنت الشركس، هدية بنت صالح العاطي، وكان لهن الأثر الكبير في استثارة النخوة والحمية عند اشتراكهن في تشييع جنازات الشهداء الذين يسقطون في ساحات الصدام مع الانتداب الفرنسي... وكانت النساء تطل من شرفات البيوت فيزغردن وينثرن (ماء الورد) على مواكب المتظاهرين..
الإضراب الستيني بدمشق الذي عم البلاد وشارك فيه الأطفال والنساء والرجال هو الأشهر عبر كفاح الشعوب التي تسعى لرفع هامتها إلى أعالي السماء، والحوادث التي رافقت هذا الإضراب تروى لتكون مشاعل نور تضيء دربنا..
تلك نثرات من صفحات مشرقة من تاريخ بلادي ضد المستعمر المحتل..
تلك لمحات من تاريخ بلد اسمه سورية خط إلياذته الخالدة بماء الذهب.. ونستمر في الحديث عن أسرار دمشق...
من موقع الألوكة
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول