الاجتهاد في اللغة عبارة
عن بذل الجهد، واستفراغ الوسع في فعل من الأفعال، وأما الاجتهاد عند علماء الأصول؛
فقد عرَّفه الإمام الغزالي بأنه: "بذل المجتهد وسعه في طلب العلم بأحكام الشريعة"،
وقال علماء الأصول: لا يكون الاجتهاد إلا فيما فيه كلفة ومشتقة من الأفعال، فيقال
اجتهد في حمل الرحى، ولا يقال اجتهد في حمل خردلة.
تظهر أهمية الاجتهاد
في بيان الأحكام الشرعية والحاجة إليه في الإسلام من اعتبارات عدة، من أهمها ما
يأتي:
· من كون النصوص الشرعية الدالة على الأحكام محدودة، والفروع
والنوازل كثيرة غير متناهية، بل هي متجددة في كل زمن، وشرع الله تعالى شرع متكامل،
ينتظم أمور الحياة كلها، وله حكم في كل فعل يصدر من المكلف، ولا بد لبيان أحكام
تلك الفروع والنوازل المتجددة من عمل هو الاجتهاد، سواء كان برد المسألة النازلة
إلى نظائرها مما ورد فيه دليل وهو القياس، أم بردها إلى قواعد الإسلام العامة التي
تندرج تحتها، أم بالاعتماد على مصادر التشريع المختلف فيها كالاستحسان، والعرف،
وغيرها.
· أن النصوص الشرعية التي يُستدل بها على حكم ما، يُنظر إليها من
حيث ثبوتها ومن حيث دلالتها، فالقرآن كله قطعي الثبوت، وأكثر السنة النبوية غير
قطعية الثبوت، ولا بد لإثبات حديث ما من بذل الجهد في القواعد المحددة لإثباته
كالنظر في رجال السند، وفي المتن، وغير ذلك مما هو معروف عند أهل هذا الفن. ثم بعد
التسليم بثبوت النص لا بد من الاجتهاد لبيان دلالة هذا النص لإثبات حكم ما، وكل
هذه العملية لا يقوم بها إلا من قامت فيه صفات المجتهد.
· من أن ألفاظ النصوص الشرعية تعرض لها عوارض، كالتخصيص
والتقييد، والإجمال والنسخ وغيرها من العوارض التي يدل ظاهرها على تعارضها لأول
وهلة، ولا بد قبل أخذ الحكم من تلك النصوص من الجمع بينها، وتأويلها بما يزيل ذلك
التعارض، وهي عملية لا يستطيعها إلا من قامت فيه صفات المجتهد أيضًا.
كل ما سبق وغيره
يوقفنا على أهمية الاجتهاد وصعوبته، ويبين لنا السبب الذي قال لأجله النبي صلى
الله عليه وسلم بأن المجتهد مأجور حتى لو أخطأ في اجتهاده: «إذا حكم الحاكم فاجتهد
ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر» رواه البخاري.
وقد وضع علماء
الأصول شروطًا كثيرة لا بد منها تؤهل صاحبها لأن يجتهد في دين الله تعالى، ويبين
الأحكام الفقهية والعقدية ونحوها، بتلك الشروط يكون اجتهاده اجتهادًا معتبرًا،
وأما من فقد تلك الشروط او بعضها فلا عبرة باجتهاده بل هو آثم متألٍ على الله
تعالى، ويمكن إيراد أبرز ما ذكره الأصوليون من شروط الاجتهاد وذلك كما يأتي:
1.
أن يكون عالمًا
بكتاب الله تعالى وما تضمنه من آيات الأحكام وأسباب نزولها، قال الغزالي: "لا
يشترط معرفة جميع الكتاب، بل ما تتعلق به الأحكام منه، وهو مقدار خمسمائة آية، لا
يشترط حفظها عن ظهر قلبه، بل أن يكون عالمًا بمواضعها".
2.
معرفة الأحاديث
المتعلقة بالأحكام، قال الغزالي: "لا يلزمه معرفة ما يتعلق من الأحاديث
بالمواعظ وأحكام الآخرة وغيرها، ولا يلزمه حفظها عن ظهر قلبه، بل أن يكون عنده أصل
مصحح لجميع الأحاديث المتعلقة بالأحكام، كسنن أبي داود، ومعرفة السنن لأحمد
والبيهقي".
3. أن يكون
عالما بمواضع الاجتهاد حتى لا يجتهد فيما وقع فيه الاجتهاد. قال الطوفي: "ويكفيه
معرفة أن هذه المسألة مجمع عليها أم لا".
4.
أن يكون عالمًا من اللغة
العربية بما يعينه على فهم كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم اللذان
جاءا بلسان عربي مبين، ولا يعني ذلك أن يكون متبحرًا في دقائق اللغة العربية نحوها
وصرفها وشعرها. وإنما -كما قال الطوفي- "أن يعرف من النحو واللغة ما يكفيه في
معرفة ما يتعلق بالكتاب والسنة من نص وظاهر، ومجمل، وحقيقة ومجاز، وعام وخاص،
ومطلق ومقيد، ودليل خطاب ونحوه».
5.
أن يكون عالمًا بأصول
الفقه ولا سيما منه القياس، فيكون ملمَّاً بشروطه، وأركانه، وأقسامه، وذلك حتى
يعرف كيفية استنباط الأحكام غير المنصوص عليها، بردها إلى نظائرها المنصوص عليها.
إلى غير ذلك من
الشروط التي ذكرها الأصوليون في كتبهم مما يتعلق بالمجتهد المطلق في دين الله
تعالى، وأما المجتهد المقيد فلا يلزمه من ذلك إلا معرفة ما يتعلق بالجزئية التي
يجتهد فيها كما قاله الأصوليون.
ولما زاغت بعض الفرق
والجماعات قديمًا وحديثًا عن الأخذ بتلك الشروط واعتبارها، وتصدت للاجتهاد بلا
أدنى مؤهلات؛ انحرفت عن جادة الصواب في أحكامها أولًا، وعابت على العلماء وضعهم
مثل تلك الشروط للاجتهاد ثانيًا، ولا أدل على ذلك مما قاله بعض الغلاة في هذا
العصر عن الجماعة التي ينتمي إليها، وعن موقفهم من الاجتهاد وشروطه: "هي
جماعة واحدة، لها أمير واحد، سندها كتاب الله والسنة، يكفرون بالتقليد، وكل مسلم
فيها مجتهد"، ولما صار كل واحد من تلك الجماعة مجتهداً؛ وقعوا في تكفير
المسلمين واستباحة دمائهم، وذلك لأنهم لا يملكون أدنى شروط الاجتهاد التي ذكرها
الأصوليون.
فهذا أحد الشباب
المنتمين لتلك الجماعة يقول -كما ينقله الدكتور نعمان السامرائي عنه-: "إني
لأجد الحديث النبوي فأفرح به، ثم بعد مدة أجد حديثا آخر لكنني لا أعرف كيف أجمع
بينهما، وضرب مثلًا: الأحاديث التي تدعو للخروج على الحاكم الظالم، وإن قتل فهو
شهيد أو سيد الشهداء، وهناك أحاديث تمنع الخروج مطلقًا". فهذا مثال صارخ لحال
هؤلاء الذين تصدوا للاجتهاد في قضايا كبرى دون معرفة بكيفية الجمع بين الأحاديث
للخروج بحكم في قضية من أخطر القضايا، ومثل هذه القضية النصوص فيها كثيرة لا يحتاج
الأمر فيها إلا لجمع تلك النصوص والخروج منها بحكم ومع ذلك لم يستطيعوه، فماذا
سيفعلون في نازلة لا نص فيها؟ كيف سيخرجون علَّتها ويقيسونها على نظائرها مما ورد
فيه نص.
وقد أدى جهل هؤلاء الناشئة،
وتصديهم للاجتهاد دون تحقيق مؤهلاته؛ أن عمدوا إلى قضايا قطعية في الإسلام
فاجتهدوا فيها، وأصدروا فيها أحكامهم مخالفين إجماع المجتهدين فيها، ومن ذلك
اجتهادهم في حكم إقامة صلاة الجمعة في الزمن الحاضر فقالوا: "إن فريضة الجمعة
لها شروط، إذا توافرت أقيمت الفريضة، وإلا توقفنا عنها حتى تستوفي شروطها، وشرطوا
في إقامة الجمعة التمكين في الأرض، فلا جماعة مع الاستضعاف". ولسائل أن يسأل:
أين هو الدليل الشرعي الذي أخذوا منه هذا الشرط لإقامة صلاة الجمعة؟ ومن هم العلماء
الذين أخذوا عنهم هذا الشرط؟
والأمثلة على مثل
هذا التطرف والغلو في دين الله كثيرة قديمًا وحديثًا، كان من أبرز أسبابها
الاجتهاد في دين الله تعالى دون تحقيق شروطه.
المصدر: موقع إسلام ويب
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول