من أخلاق المسلم: الرفق -2-

 

حاجة الناس إلى الرفق :

قال الغزالي: الرفق محمود ،وضده العنف والحدّة. والعنف ينتجه الغضب والفظاظة، والرفق واللين ينتجهما حسن الخلق والسلامة، والرفق ثمرة لا يثمرها إلا حسن الخلق ولا يحسن الخلق إلا بضبط قوة الغضب وقوة الشهوة وحفظهما على حد الاعتدال، ولذلك أثنى المصطفى - صلى الله عليه وسلم- على الرفق وبالغ فيه .

وقال ابن عمر: العلم زين والتقوى كرم والصبر خير مركب، وزين الإيمان العلم ، وزين العلم الرفق، وخير القول ما صدقه الفعل .

وعن حبيب بن حجر القيسي قال: كان يقال: ما أحسن الإيمان يزينه العلم، وما أحسن العلم يزينه العمل، وما أحسن العمل يزينه الرفق، وما أضيف شيء إلى شيء أزين من حلم إلى علم .

وعن جابر رضي الله عنه قال: الرفق رأس الحكمة .

وعن ابن عباس قال: لو كان الرفق رجلاَ كان اسمه ميموناَ، ولو كان الخرق رجلاَ كان اسمه مشؤوماَ .

وقال جرير: الرفق في المعيشة خير من كثير التجارة .

 

وعن إبراهيم بن سعيد الجوهري قال: وقف رجل بين يدي المأمون قد جنى جناية، فقال له: والله لأقتلنك. فقال الرجل: يا أمير المؤمنين تأنَّ عليّ فإن الرفق نصف العفو، قال: فكيف وقد حلفت لأقتلنك؟ قال: يا أمير المؤمنين لان تلقى الله حانثا، خير لك من أن تلقاه قاتلا، فخلى سبيله.

وعن نصر بن علي قال: دخلت على المتوكل فإذا هو يمدح الرفق فأكثر، فقلت: يا أمير المؤمنين أنشدني الأصمعي:

 

ولم أر مثل الرفق في لينه      أخـرج العذراء من خدرهـا

من يستعن بالرفق في أمـره      يستخرج الحية من جحرها 

 

فقال: يا غلام الدواة والقرطاس فكتبهما.

وما أحسن قول القائل: 

 

ورافق الرفق في كل الأمور     فلم  يندم رفيق، ولم يذممه إنسانُ  

ولا يغرَّنْكَ حظٌّ جَرَّهُ خُرُقٌ       فالخُرْق هدم ورفق المرء بنيانُ

 

مجالات الرفق وعلاماته :

لا تكاد ساحة من ساحات الإسلام إلا وللرفق فيها النصيب الأكبر والحظ الأوفر، سواء على مستوى التشريع الفقهي أو في جانب العلاقات الاجتماعية أو في المعاملة حتى مع الخصوم والأعداء أو في غيرها من المواطن، هذا فضلا عن أنه تعالى عرف نفسه لعباده بأنه الرفيق الذي يحب الرفق، وكان رسوله -صلى الله عليه وسلم- نبراسا في هذا الشأن ما لم تنتهك حرمة من حرمات الله.

كل هذا الارتباط الوثيق بين الإسلام والرفق جعل منه بحق دين الرحمة والسماحة مهما تعسف المغرضون في وصمه بالعنف والإرهاب. 

والرفق عام يدخل في كل شيء تعامل الإنسان مع نفسه، ومع أهله ،ومع أقاربه وأصحابه ومع من يشاركه في مصلحة أو جوار وحتى مع أعدائه وخصومه فهو شامل لكل الأحوال والشؤون المناسبة له.

روى أحمد  وصححه مخرِّجوه عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إذا أراد الله عز وجل بأهل بيت خيرا أدخل عليهم الرفق".

وعلامات الرفق هي:

لين الجانب، ولطافة القول، وإحكام العمل، والقصد في السير، وطلاقة الوجه، والتبسم في وجوه الناس، ونحوها.

والرفق مستحب في كل شيء، لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب الرفق في الأمر كله". أخرجه البخاري عن عائشة.

ولكنه يتأكد في الأمور الآتية:

1-   الرفق بالوالدين: لقوله تعالى: [وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً] (الإسراء:23-24).

إلى كل ابن كريم نقول:  رفقًا بوالديك وقولاً ليِّنًا؛ ألم تشعر يومًا ما بقَسوتك في التعامل معهما وهما اللذان سهِرا على تربيتك والإ‌حسان إليك، فإذا كان الرفق مطلوبًا مع الآ‌خرين، فهو مع الوالدين أوجب وأوْلى، بل إن التأفُّف في وجههما إثمٌ وقطيعة وجريمة، وهل جزاء الإ‌حسان إلا‌ الإ‌حسان، فأحسِن صُحبتهما، وارْفُق بهما؛ فإنهما باب من أبواب الجنة. 

ها هما بجوارك قد بدأ المشيب إليهما، واحْدَودب منهما الظهر، وارتعشَت الأ‌طراف، لا‌ يقومان إلا‌ بصعوبة، ولا‌ يَجلسان إلا‌ بمشقة، أنهَكتهما الأ‌مراض، وزارتْهما الأ‌سقام، فعليك بالبر والإ‌حسان، ولا‌ تَبخل عليهما بمالك وجُهدك، وحُسن خلقك وطِيب مَعشرك .

2-    الرفق بالزوجة والأولاد، لقوله صلى الله عليه وسلم: "خيركم خيركم لأهله". رواه الترمذي وغيره.

إلى كل الأ‌زواج:

رفقًا بزوجاتكم ورحمةً بهنَّ؛ فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرفقَ وأرحم بعائشة - رضي الله عنها - من أبيها أبي بكر - رضي الله عنه - فقد كان الزوج العظيم أرفق بزوجته من أبيها، وأحلمَ عليها منه وأشفقَ عليها. فهلاَّ‌ اقتديتُم برسول الله - صلى الله عليه وسلم!

 

إلى كل الزوجات:

رفقًا بأزواجكنَّ ورحمة بهم؛ تقديرًا لظروفهم، وعدم الإ‌ثقال على كاهلهم، وتكليفهم بما لا‌ يستطيعون، خاصة بأمر الطلبات وكثرتها، فالكفاف خير، وليكن لنا في أمهات المؤمنين - رضي الله عنهنَّ - قدوة حسنة حينما آثَروا واختاروا الباقية على الفانية، بعد أن خيَّرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك في قوله - تعالى -: ? إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا ? [الأحزاب: 28 - 29].

ويا أيها الآباء والأمهات: لقد أنعَم الله عليهما بالبنين والبنات، رفقًا بالقوارير من بناتكم ومربيات الأ‌جيال، ورفقًا بالبنين من أبنائكم صُنَّاع المجد - بإذن الله - فإنكم برِفقكم وحسن أسلوبكم، تصلون إلى ما لا‌ تستطيعون أن تصلوا إليه بالشدة والعنف؛ فالتربية بالرفق والإ‌حسان أكثر نفعًا وأشد قَبولاً في نفوس هؤلا‌ء الأ‌ولا‌د؛ ليكون ذلك أدعى لقَبولهم ومحبتهم للخير وأهله، فالعنف معهم دون سببٍ بيِّن وكحالةٍ استثنائية، لا‌ يُولد إلا‌ العنف والكراهية والا‌نفعالا‌ت.

3-    الرفق بالجار. لقوله تعالى: [وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ] (النساء: 36).

4-  رفق الإمام بالمأمومين، لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا صلى أحدكم للناس فليخفف، فإن منهم الضعيف والسقيم والكبير". رواه البخاري. 

والرفق في تسوية صفوف الصلاة، لأن إقامة الصفوف وسد الخلل تقتضيان الاستجابة وعدم المعاندة ،وكثيرا ما يحرش الشيطان في الصدور ، في لحظة القيام للصلاة ، وتسوية الإمام للصفوف ، بتأخير هذا وتقديم ذاك إلى أن يستقيم الصف ، وقد كان من وصيته صلى الله عليه وسلم قبل الدخول في الصلاة : ( ... ولينوا في أيدي إخوانكم ... )   رواه أبو داود.

5-  الرفق بالخدم، وتدل عليه أحاديث، منها ما أخرجه البخاري عن المعرور قال: لقيت أبا ذر بالرَّبَذة وعليه حلة وعلى غلامه حلة، فسألته عن ذلك، فقال: إني ساببْت رجلا فعيَّرته بأمه، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أبا ذر: أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية، إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم ".

فيامن مَن أنعم الله عليهم بالخدم والأُ‌جَراء:

رفقًا بـهؤلا‌ء الخدم، وتجنَّبوا أن تكلفوهم ما لا‌ يُطيقون، وامتثلوا لأ‌مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - 

 

كما ندعوكم للتصدق عليهم على أُجرائكم وخدمكم، زيادة على مستحقَّاتهم؛ ففيهم أجر وصدقة، وهم لها مستحقون، وإلا‌َّ لَما تغرَّبوا عن أبنائهم وأطفالهم، ثم لتَبرأ ذِمَّتك من زللٍ أو خطأ، أو قسوة وتقصيرٍ.

6-  الرفق بالحيوان، وإذا تأمَّلنا بعضَ الأحاديث الواردة عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فإننا نجد ألوانًا عديدة من مظاهر الرفق بالحيوانات، ومن ذلك أنه نَهَى عن إلحاق الضرر بالحيوان، كتحميله أكثر مما يطيق، أو إرهاقه في السَّيْر؛ فعن أبى هريرة قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إذا سافرتُم في الخصب، فأعطوا الإبل حظَّها من الأرض، وإذا سافرتُم في السنة -الْجَدْب والقَحْط-، فأسرعوا عليها السَّيْر صحيح مسلم، باب مراعاة مصلحة الدواب في السَّيْر، حديث (5068 (

 

كما نَهَى عن اتخاذ الحيوان أداةً للَّهْو، كجَعْله غرضًا للتسابق في رَمْيه بالسهام ،فعن سعيد بن جُبير قال: مرَّ ابن عمر بفِتْيَان من قريش قد نصبوا طيْرًا وهم يرمونه، وقد جعلوا لصاحب الطير كلَّ خاطئة من نَبْلهم، فلمَّا رأوا ابن عمر، تفرَّقوا، فقال ابن عمر: مَن فعَل هذا؟ لعن الله مَن فعل هذا! إن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لعَنَ مَن اتَّخذ شيئًا فيه الرُّوح غرضًا. صحيح مسلم، باب النهي عن صبر البهائم، حديث (5174(

 

وعن عبدالرحمن بن عبدالله عن أبيه قال: كنَّا مع رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في سفر، فانْطلق لحاجته فرأينا حُمَّرة -الْحُمَّرة - بضم الحاء وفتح الميم المشددة -: طائر صغير -أحمر اللون-معها فرخان، فأخذنا فَرْخيها، فجاءت الْحُمَّرة، فجعلتْ تفرش-أي تُرفرف بجناحيها وتقترب من الأرض-، فجاء النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: ((مَن فَجَعَ هذه بولدها؟! ردُّوا ولدها إليها""رواه البخاري في " الأدب المفرد " برقم : (382) وأبو داود برقم: (2675).

 

تلك بعض الأحاديث التي تدلُّ على مظاهر رحمة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ورِفْقه بالحيوان.

الرِّفْق بالحيوان – في شريعتنا- يعني توفيرَ حاجتها مِن الطعام والشراب، ومكان ملائم يؤويها ويقيها الحرَّ والبَرد، وعدم إجهادها أو تحميلها فوقَ طاقتها، ومداواتها إنْ مرِضت، وأن نحسن ذبْحَها إنْ كانت من تلك التي سخَّرها الله وذلَّلها لنا لخِدمتنا وأكْلنا، أما الحيوانات الأُخرى السائبة التي تَعيش في محيطنا وسِواها مِن الحيوانات البريَّة، فقد نهانا دِينُنا عن حبسها أو أذيتها؛ لتظلَّ قادرةً على الاعتناء بنفسها مِن جلب لأقواتها وتكاثرها. كما أنَّنا نهينا عن قتْل الحيوانات المؤذية إلاَّ في حالات محدودة للضرورة، وحتى إنَّ ينهانا الإسلام عن سبِّ الحيوانات كما في حديثِ الدِّيك.

 لقد أعدّ الإسلام قانونًا متكاملاً لحقوقِ الحيوان لرحمته والرفق به، بُني على أساس متين مِن الثواب والعقاب، وتنظيمًا شاملاً لعلاقة الإنسان بالحيوان يتفوَّق على كلِّ القوانين التي صاغَها الآخرون وجمعيات حقوق الحيوان التي يتباهى بها الغربيون؟!

7- رفق الحكام مع رعيتهم . 

8- الرفق في الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 

ونظرا لأهمية المجالين الأخيرين ، أفردهما بالشرح والتفصيل في الكلمات التاليات .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين