من أخطاء العابدين

 

" من علامة اتباع الهوى، المسارعة إلى نوافل الخيرات، والتكاسل عن القيام بالواجبات "

 الفروض التي يجب أداؤها كثيرة ومنوعة، وهي في العبادات محدودة كماً وكيفاً ولكنها في العادات مفتوحة الدائرة متطورة الأداء.

 والمسلم مطالب بكل الواجبات التي ارتبطت بعنقه، ولا يجوز أن يوجه نشاطه إلى نافلة ما قبل أن يستكمل هذه الواجبات أولاً.

 إنَّ الواجبات والنوافل أشبه بالضرورات والمرفهات، والمرء لا يشتري لنفسه عدة زجاجات من العطور وهو وأهله بحاجة إلى أرغفة من الخبز، سد الجوع أولى من هذه الزينات.

 وقد رأيت ناساً من أهل الدين يذهلون عن هذه الحقيقة، وحكى لي أحدهم أنه حج عدة مرات وهو بسبيله إلى حجة جديدة، لن تكون الأخيرة...

وهذا خطأ.

 فلو أنَّه بعد حجة الفريضة تأمل فيما عليه من فروض أخرى، ولو أنه تتبّع الثغرات التي شاعت في مجتمعنا وعمل على سدادها لكان أدنى إلى الصواب، وأقرب إلى مرضاة الله، وأبعد عن أهواء النفس...

إن نفقات حجة واحدة من هذه النوافل تكفي لدفع نفقات الدراسة لنفر من الطلاب الفقراء، وهم أولى، وتكفي لرفع الحجز عن أمتعة نفر من الغارمين المعسرين وهم أولى، وتكفي لطبع بعض الكتب الدينية وتوزيعها بالمجان وذاك أجدى... الخ.

إن إنقاذ أمتنا من الجهل والفقر أوجب من إشباع رغبة نفسية في متابعة الحج والعمرة، هذه فريضة وتلك نافلة.

 بل لو أن الحاج كان تاجراً، واستغل المال في توسيع تجارته لدعم الاقتصاد الإسلامي، وإغلاق الأبواب أمام الاقتصاد الأجنبي لكان ذلك أحق من بذل المال في التطوع بحج أو عمرة.

 ذلك أن الجهاد الاقتصادي صنو الجهاد الحربي، بل إن لقاء العدو في ميدان الدم يجيء مرحلة أخيرة بعد كفاح طويل في عالم المال والمعرفة والدعاية والبذل.

وتنظيماً للعلاقة بين الفرائض والنوافل روي عن ابن عباس رضى الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حجة خير من أربعين غزوة وغزوة خير من أربعين حجة يقول إذا حج الرجل حجة الإسلام فغزوة خير له من أربعين حجة وحجة الإسلام خير من أربعين غزوة).

 وفى رواية عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (حجة لمن لم يحج خير من عشر غزوات وغزوة لمن قد حج خير من عشر حجج).

 وقد أبنا فيما كتبنا أن الجهاد الحربي، حلقة من سلسلة بها حلقات أخرى من غزو اقتصادي وثقافي،  لا تقل خطراً عن نظائرها.

 إن أصحاب البصر السديد من العلماء يضعون الحدود مكبرة بين الفروض والنوافل حتى لا يقع المسلم في تقصير مخل وهو يحاول إرضاء الله بعمل لم يوجبه عليه.

 وابن عطاء الله يعد من إتباع الهوى إيثار نافلة خير على واجب قائم.

 وقد رأيت بعض الصالحين يصومون يومي الاثنين والخميس ويجتهدون في التقرب إلى الله بهذا العمل الكريم.

والصيام قربة لا ريب فيها وجهاد نفس نبيل، ولكني أحب أن أنظر إلى الموضوع على ضوء الموازنة بين الفرض والنفل.

 فمن صام رمضان فقد أدى الفريضة، فإن كان صيام أيام أخرى سيوهن قواه عن العمل في المدرسة، إن كان مدرساً، أو العمل في الديوان إن كان موظفاً، فالفطر أولى به.

 لأن هذا التنفل سيعجزه عن القيام بفريضة تعليم التلامذة، أو يعجزه عن القيام برعاية مصالح الجمهور، وكلا العملين فريضة بالنسبة له.

 ولماذا يجهل بعض الناس أن ما وكل إلى ذممهم من أعمال عامة أو خاصة هو مجال خصب لكسب رضوان الله وغفرانه؟.

 لقد كنت ألحظ ـ بأسى ـ أن بعض الأطباء يحب أن يعظ الناس في المساجد!

 لماذا؟.

 إن الكشف الدقيق على مريضه هو العبادة الأولى المطلوبة منه، ولا يغني عن هذه العبادة أن يجيد بعض خطب أو يطيل بعض ركعات ـ عدا الصلوات المكتوبات.

 إن صلاته بعد الأوقات الخمس هي علاجه المرضى واستكشاف عللهم، وتيسير الشفاء لهم بكل ما هنالك من وسائل...

 لقد قلت: إن الفروض كثيرة، وإذا كانت محدودة في ميدان العبادات فهي مطلقة في الميادين الأخرى، وأمتنا فقيرة إلى الجد في الميادين كلها وإلا جثت على ركبتيها أمام أعدائها.

 ولذلك يجب أن تنظم جهود العابدين، حتى لا تقل في ناحية وتكثر في ناحية أخرى.

 ويجب إبراز الفروض أولا حتى لا تضطرب الأوضاع وتختل الموازين وتتبدد الجهود هباء.

المصدر من كتاب الجانب العاطفي من الإسلام

****

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين