من أبجديات الثورة

د.أحمد محمد كنعان

يعيش الوطن العربي هذه الأيام ثورات شعبية هادرة ضد الاستبداد ، وقد نجحت بعض هذه الثورات في عدة بلدان عربية خلال الأشهر القليلة الماضية ، فيما تتابع ثورات أخرى طريقها نحو الحرية في بلدان أخرى ، وعلى الرغم من أوجه الاختلاف بين هذه الثورات إلا أنها تلتقي جميعاً على هدف أساسي هو إسقاط الأنظمة الاستبدادية وإقامة الدولة الديمقراطية المدنية على أمل أن تعود للمواطن العربي حريته وكرامته التي أهدرتها هذه الأنظمة الطاغية على مدى العقود الماضية التي أعقبت الاستقلال ، وفي خضم هذا الحراك الثوري نجد لزاماً علينا أن نتوقف قليلاً عند بعض المفاهيم الأساسية التي تشكل أبجدية الثورة .. أية ثورة .. والتي ينبغي توافرها لضمان نجاح الثورة وتحقيق أهدافها ، وسوف نعرض هذه المفاهيم باختصار مراعاة لطبيعة هذه المقالة .
1.    أن الثورة كالمسافر ، فكما أن المسافر يحتاج إلى برنامج زمني لرحلته يحدد فيه بدايتها ومسارها وأهدافها والوسائل التي سوف يستخدمها في حلِّه وترحاله ، فكذلك ينبغي أن يكون لدى الثوار برنامج زمني مفصل يحددون فيه أهداف الثورة ومسارها والأدوات والوسائل التي تحتاجها ، وكما أن المسافر قد يتعرض في رحلته إلى بعض المفاجآت فكذلك الثورة ينبغي أن تكون مستعدة لبعض المفاجآت ـ وما أكثرها في خضم الثورات ـ وعلى الثوار أن يضعوا الخطط البديلة لمواجهة مثل هذه المفاجآت إذا ما حصلت .
2.    أن الاستبداد لا يصنع نفسه ، وإنما تصنعه الشعوب عندما تتخلى عن دورها ، وتصمت ، وتترك مصيرها في يد الحاكم الفرد ليمارس فجوره السياسي ، ويستفرد بالحكم ، ويذيق الشعب ألوان الذل والهوان والمرارة ، وهي ضريبة باهظة لطالما دفعتها الشعوب لقاء سلبيتها وسكوتها ، وكلما طالت هذه السلبية وهذا السكوت كلما تضاعفت الضريبة وتمادى المستبد في طغيانه ، وهذا ما عشناه على مدى العقود الماضية التي أعقبت رحيل الاستعمار عن بلداننا العربية ، واكتوينا فيها بنار الاستبداد ، وها نحن اليوم نسدد بقية الفاتورة من دماء أبنائنا كلما حاولنا إسقاط واحد من هؤلاء المستبدين .. وفي هذا درس عظيم للشعوب أن لا تسكت على الاستبداد أبداً ، وأن لا تترك الفرصة لأي زعيم أن يستفرد بالسلطة مهما ظنت فيه التقوى والصلاح والنزاهة ، لأنه لن يتورع ـ تحت إغراء السلطة والجاه والثراء ـ عن أن يضرب جذوره في "الكرسي" وتغدو إزاحته عنه ضرباً من المستحيل !
3.    أن الثورة التي تستهدف التغيير نحو ما هو أفضل تحتاج إلى حس وطني صادق ، ووعي سياسي عميق ، فالوطنية وحدها لا تكفي لتحقيق أهدافنا المنشودة في الحرية والكرامة ، بل لابد من وعي سياسي يقوم على أربعة دعائم :
-       معرفة دقيقة بطبيعة المرحلة وطبيعة الأزمات التي تعاني منها البلاد .
-       توفير أدوات ووسائل التغيير ، من كوادر بشرية تؤمن بضرورة الثورة ، ووسائل تناسب كل مرحلة من مراحل الثورة .
-       وضع برنامج زمني لمجريات الثورة ومراجعة هذا البرنامج بين فترة وأخرى للتأكد من أنه يجري وفق الخطة المرسومة .
-       تحديد أهداف الثورة وما بعدها.
4.    إن التغيير على أيدي نخبة من الثوار ـ كما هي الحال في الانقلابات العسكرية مثلاً ـ نسبة فشله عالية جداً وضريبته كبيرة في معظم الحالات ، وهو يكرس حالة الاستبداد كما رأيناه وعاصرناه على مدى نصف قرن الماضي سواء في البلدان العربية أو في غيرها من بلدان العالم ، وبالمقابل نجد أن الثورات الشعبية هي التي تحقق نسبة نجاح عالية ، فلا تكاد تجد في التاريخ ثورة شعبية قد أخفقت ، مقابل عشرات الانقلابات العسكرية التي باءت بالفشل ، وأعادت البلاد إلى حالة أسوأ بكثير مما كانت قبل الانقلاب !
5.    إن ثورات الربيع العربي تشكل نقلة جديدة كل الجدة في تاريخ الثورات ، فقد كانت الثورات في الماضي تجري تحت قيادة "رمز" من رموز الأمة ، وهذا الرمز قد يكون زعيماً روحياً ، أو قائداً سياسياً ، أو نخبة طليعية من المثقفين ، أو زمرة من العساكر ، أما ثورات الربيع العربي ( طبعة 2011 ) فقد انتقلت بمفهوم الثورة إلى أفق جديد لأول مرة في التاريخ إذ أصبح "الشعب" بأطيافه المختلفة هو قائد الثورة ، فلأول مرة في التاريخ نرى ثورات شعبية بلا قائد رمز ، ونعتقد أن هذه النقلة سوف يكون لها صدى واسع في الثورات القادمة عبر العالم ، لأن هذه النقلة استطاعت بجدارة ـ ولأول مرة في التاريخ ـ أن تلغي من الذاكرة الجمعية صورة "البطل المخلِّص" لتحل محلها صورة الشعب البطل .. فتأمل !
6.    أن التغيير بالطرق السلمية أجدى وأدوم وأقل تكلفة من التغيير بالعنف ، وينتهي التغيير السلمي غالباً بحالة من الاستقرار في المجتمع ، على النقيض من الثورات العنفية التي تكلف الأمة دماء كثيرة ، وخراباً واسعاً ، ولا تحقق الاستقرار المنشود ، بل قد تنتهي إلى ما هو أسوأ ، فقد تكرس حالة الاستبداد في البلاد ، وقد تتطلب تدخلاً خارجياً يعيدنا إلى عهود الاستعمار ، وقد تنتهي بتقسيم البلاد إلى دويلات متناحرة ، وهذا ما شاهدناه في حالات عديدة في الماضي والحاضر .
7.    إن وجود (معارضة) نشطة وفعالة ضرورة لابد منها لمراقبة سير العملية السياسية في البلاد ، ومما يسترعي انتباهنا في هذا السياق أن الخالق عز وجل خلق المعارضة (= إبليس) قبل أن يخلق الأصل (=آدم) عليه السلام ، بل أكثر من هذا أن الخالق الحكيم سبحانه أعطى المُعارض إبليس حرية كاملة في التعبير عن رأيه ومنحه حق المعارضة ليس لفترة محدودة بل لآخر الزمان ، وفي هذا درس عظيم لنا أن نعمل على إيجاد معارضة نشطة وفعالة في المجتمع إن لم تكن موجودة ، ونعطيها الحرية الكاملة لتعبر عن أرائها ، ونترك الحكم لعامة الشعب وللزمان ليحكم بصواب المعارضة أو خطئها .
8.    إن اختلاف الرؤى السياسية أمر مطلوب في العمل السياسي لأنه يساعد في إنضاج القرارات ، وذلك لأن اختلاف الرؤى يساعدنا في النظر إلى المسائل من زوايا متعددة مما يجعل الصورة أوضح ويجعل القرار أقرب إلى الصواب ، ولكن لابد من الحذر بأن لا يصل هذا الاختلاف بين الرؤى السياسية إلى درجة النزاع الذي يؤدي حتماً إلى الإخفاق في تحقيق الأهداف المنشودة ، وهذا ما حذرنا منه ربنا سبحانه وتعالى فقال: (( ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم )) ، وهذا يعني ضرورة توفير الحد الأدنى من التفاهم بين أطياف العمل السياسي ، مع التركيز على ما هو متفق عليه ، وتهميش المختلف فيه قدر الإمكان .
9.    هناك حقيقة أثبتتها وقائع التاريخ مراراً وتكراراً ، في الماضي وفي الحاضر ، وهي أن أقوى جيش في العالم لا يمكنه أن يهزم شعباً تنسم رائحة الحرية وعرف طريقه ، وفي اللحظة التي يقرر فيها الشعب القيام بثورته يكون قد وضع النهاية للاستبداد ، ويكون قد خطا الخطوة الحاسمة نحو المستقبل المنشود .
10. إن من أهم مرتكزات الحياة السياسية الناجحة ( الشورى / الديمقراطية / الحوار / رأي الأغبية / القانون فوق الجميع ) فهذه الأبجديات ينبغي أن يتشربها الشعب الثائر ، ويؤمن بها ، ويجتهد في تطبيقها على أرض الواقع ، وإلا كان الفشل من نصيبه ، ويصدق فيه المثل (كأنك يا بو زيد ما غزيت ) وتكون الثورة قد سلمت البلاد على طبق من ذهب للانتهازيين والمرتزقة واللصوص وتجار الشعارات !
11. ليست الثورة .. أية ثورة .. هي آخر الثورات ، ولن تكون ، وهذه هي طبيعة البشر (( وتلك الأيام نداولها بين الناس )) ذلك أن الأمم الحية تحتاج ما بين فترة وأخرى إلى ثورة تجدد شبابها ، وهذا الدرس تعلمته من التاريخ خلال تأليف كتابي القادم ( موسوعة تاريخ العالم ) وتعلمته قبل هذا من أمي رحمها الله تلك الحكيمة التي كانت في كل عام ، أواخر الشتاء ، تقلب جرار الزهور رأساً على عقب فتجدد ترابها وتغرس فيها بذرات جديدة استعداداً للربيع القادم ، وكان هذا العمل منها يسعدنا غاية السعادة لأنه يشعرنا بالتجديد عندما نرى من حولنا أنواعاً جديدة من الزهور وألواناً جديدة من الورود ، وفي هذا درس آخر عظيم لنا نحن التواقين إلى الحرية : أن نحافظ على ما لدينا من بذور الثورة .. استعداداً للربيع التالي !

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين