من آثار غزوة بدر

  

لقد كانت معركة بدر معركة فاصلة، لأنها غيَّرت مجرى الأحداث بعدها أيما تغيير، وتركت آثارها البعيدة، بل الحاسمة في قريش، وفي المدينة، وفي قبائل العرب، ناهيك بآثارها في مستقبل العالم كله، ولنأخذ الآن في استعراض بعض هذه الآثار.

أولاً: آثار بدر في قريش.

أ ـ الناحية النفسية:

كانت معركة بدر ضربة موجعة مفاجئة لقريش، هزتها من الناحية النفسية هزاً عنيفاً، وأشعرتها أن المسلمين قوة غالبة، وأنهم مؤيدون بقوة أخرى.

يقول أبو سفيان وقد سأله أبو لهب عما حصل في بدر: « والله ما هو إلا أن لقينا القوم، فمنحناهم أكتافنا، يقتلوننا كيف شاؤوا، ويأسروننا، كيف شاؤوا وايم الله مع ذلك ما لُمت الناس، لقينا رجالاً بيضاً على خيل بُلْق بين السماء والأرض، والله ما تليق شيئاً، ولا يقوم لها شيء». وهذا الكلام إقرار بأن المسلمين مؤيدون بقوة غير عادية ويدل على اهتزاز نفسية قريش نتيجة معركة بدر.

ـ لقد أذهلت نتائج بدر رجالات قريش، حتى الذين لم يحضروا المعركة، وأذلتهم، يدلُّ على ذلك أنه لما قدم الحيسمان بن عبد الله الخزاعي مكة يخبر أهلها وجعل يعدِّد أشراف قريش الذين قُتلوا، ذهل القوم، وشكوا في صدقه بل في عقله، فقال صفوان بن أمية بن خلف: والله إن يعقل هذا فسلوه عني، فقالوا: ما فعل صفوان بن أمية؟ قال: هو ذاك جالساً في الحِجْر، والله لقد رأيت أباه وأخاه حين قتلا.

وفي مقابل هذا الذهول الذي مُني به رجالات قريش جعل المسلمون المستضعفون في مكة يعزون، وجعلت معنوياتهم ترتفع بما أفاء الله سبحانه على الدعوة وأهلها من النصر والتأييد، حتى سمت بهم مشاعرهم إلى الوقوف في وجه جبابرة قريش، ومواثبتهم، وما كانوا ليجرؤوا على هذا من قبل بدر. مما يدل على ما ذكرناه من ذلة رجالات قريش، وعزة المؤمنين المستضعفين ما يرويه أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنه كان غلاماً للعباس بن عبد المطلب، وأنه كان رجلاً ضعيفاً ينحت الأقدار في حجرة زمزم، ولما أخبر أبو سفيان أبا لهب أنهم لقوا في المعركة رجالاً بيضاً على خيل بلق. قال أبو رافع: تلك والله الملائكة، فغضب أبو لهب، وصفعه صفعة شديدة، فما كان من أبي رافع إلا أن هجم على أبي لهب وثاوره، وانتهى الأمر بأن نهضت أم الفضل زوجة العباس لتدافع عن أبي رافع، فأخذت عموداً من عمد الحجرة، وشجت رأس أبي لهب شجة منكرة، فقام مولياً، ولم يعش بعدها إلا سبع ليال، فرماه الله بالعدسة، ومات ذليلاً مغموماً.

ولولا ما أنزلت غزوة بدر من ذل وهوان، برجالات قريش لما كان من الممكن أن يجرؤ أبو رافع رضي الله عنه على أبي لهب، وهو سيد من سادات الوادي.

ـ إن نتائج غزوة بدر أحزنت قريشاً، وعذبتهم عذاباً معنوياً أليماً، ذلك أنه لما تحقق أهل مكة من نتائج بدر ناحوا على قتلاهم، وقطعت النساء شعورهن، وعقروا خيولاً كثيرة ورواحل، وكان يؤتى براحلة الرجل منهم أو بفرسه فيجتمع الناس حولها،ويأخذون في البكاء..

وإن غزوة بدر هزت قريشاً هزة نفسية عنيفة،وأذهلتها أيما ذهول، وآلمتها إيلاماً معنوياً بليغاً، وفي مقابل ذلك جعلت المسلمين يحسون في آفاق نفوسهم بالعزة والرفعة.

ب ـ الناحية  الاقتصادية:

إنَّ حياة قريش تقوم في معظمها على التجارة، ولتجارتها رحلتان أساسيتان: رحلة الصيف إلى الشام، ورحلة الشتاء إلى اليمن، وجاءت غزوة بدر، لتسد الطريق في وجه هذه التجارة، مما أوقع قريشاً في حرج شديد، وجعلها على عتبة أزمة اقتصادية خانقة يدل على ذلك تصريح صفوان بن أمية إذ وقف يوماً يحدد معالم الأزمة الاقتصادية التي أمست قريش على عتبتها ويقول: «إن محمداً وأصحابه قد عوّروا علينا متجرنا ... لا يبرحون الساحل، فما ندري أين نسلك؟ وإن أقمنا نأكل رؤوس أموالنا، ونحن في دارنا هذه مالنا فيها بقاء، وإنما نزلناها على التجارة إلى الشام في الصيف، وإلى الحبشة في الشتاء»، وهنا يتقدم زمعة بن الأسود ليدل صفوان بن أمية على رجل يسلك به طريق العراق إلى الشام، على أن هذا الطريق أطول من الطريق الأول، وأشق مسلكاً، ولكن لا بدَّ منه، لأن الأول قد سيطر عليه الصحابة، وأضحى سلوكه غير مأمون على تجارة قريش.

وكان هذا الرجل فرات بن حيان من بني بكر بن وائل، فاستأجرته قريش وجهزت عيراً عظيمة خرج معها، فيمن خرج، أبو سفيان، وعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بخروج هذه العير، فبعث زيد بن حارثة في مائة راكب ليعترضها فأدركها على ماء في نجد يدعى (القَرْدة) ففرَّ الرجال الذين كانوا يحرسون العير واستاقها زيد رضي الله عنه وأسر دليلها فرات بن حيان، وكان أسره من حُسن حظه، لأنه أسلم وحسن إسلامه.

وكانت غزوة القردة بعد بدر بستة أشهر.

وهكذا نجح المسلمون في ضرب حصار اقتصادي على قريش.

ج ـ الناحية القيادية:

لقد أودت معركة بدر بعدد من كبار قادة قريش، وذوي الرأي فيها كعتبة وشيبة ابني ربيعة، وأبي جهل بن هشام، وأمية بن خلف.. ولا شك أن مصاب قريش بملئها كان رزءاً عظيماً عليها، أسهم في رجِّ مجتمعها، وإضعافه في حلبة الصراع بينه وبين دعوة الحق.

د ـ الناحية العسكرية:

إنَّ هزيمة قريش في بدر، قد طامنت من كبريائها، وخفضت من ثقتها إزاء المسلمين، خصوصاً  أن هذه الهزيمة قد نكبتها بعدد كبير من ملئها، وقادتها، وسادتها... وما زالت حالتها العسكرية بعد هذه النكبة بين مدِّ وجزر ضمن اتجاه عام آخذ في الانحدار حتى بلغ حضيضه يوم جلا المشركون عن الخندق... ويومها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الآن نغزوهم ولا يغزوننا، نحن نسير إليهم» البخاري.

لم تستسلم قريش لما حل بها نتيجة وقعة بدر، وكيف تستسلم وهي رأس القبائل في مناوأة دعوة الحق؟. فلابد لها من أن تحاول أعمالاً تشفي غيظها، وتسترد اعتبارها. ومن ثم نذر أبو سفيان  ألا يمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو النبي صلى الله عليه وسلم، وينتقم لما أصابه في بدر... وقد استطاع أن يجهز جيشاً قوامه مائتا فارس وتوجه به نحو المدينة، فأرسل رجالاً من جيشه إلى المدينة، فأتوا ناحية تسمى العريض فحرقوا نخلاً، وأصابوا رجلاً من الأنصار في حرث له هو وحليفه فقتلوهما. وبعد ذلك انصرف أبو سفيان بمن معه راجعاً إلى مكة.

علم الرسول صلى الله عليه وسلم بهؤلاء، فخرج في إثرهم، ولكنهم أمعنوا في الفرار، حتى إنهم اضطروا إلى إلقاء أزوادهم تخففاً، والتماساً للنجاة... وكان أكثر ما طرحوه من أزوادهم  السويق، وقد أصاب المسلمون منه شيئاً كثيراً، وسميت هذه الغزوة (غزوة السويق) لكثرة ما طرح الكفار منه، وهم فارون أمام جيش النبي صلى الله عليه وسلم.

وقد كانت هذه الغزوة لخمس خَلَون من ذي الحجة أي: بعد غزوة بدر بشهرين وأيام.

وأنت ترى أنَّ أبا سفيان أخفق في تحقيق هدفه، فهول م يستطع أن يقوم بأي عمل يعتبر شيئاً إزاء ما أصاب قومه في بدر، وجل ما هنالك أن جيشه في غزاته هذه أغار غارة اللصوص، وفر فرار الجبناء، فلم يشف غيظاً، ولم يستعد اعتباراً، ولم يغسل عاراً، بل جدده بفراره وأكده.

بقيت قريش تجتر أحقادها على المسلمين، وتتذكر ما أصابها في بدر ، وقد أذكت هذه الأحقاد ، وألهبت هذه الذكريات أموراً منها: إخفاقها في غزوة السويق، واستياق زيد بن حارثة عيرهم في غزوة القردة، وقد اجتمع في أنفسهم من هذه الأسباب ما حفّزهم إلى غزو المدينة، فاستفرغوا وسعهم في حشد جيش قوامه ثلاثة آلاف، ثم قصدوا المدينة، وكانت معركة أحد، وهي إخفاق عسكري محقق أو هي على أحسن تقدير نصر جزئي أطاحت به هزيمتان: إحداهما في بداية المعركة، والأخرى عقب حمراء الأسد، حين بلغهم مخرج النبي صلى الله عليه وسلم، ففتّ ذلك في أعضادهم، فتمادوا بالانسحاب إلى مكة، وقد كانوا أرادوا الرجوع إلى المدينة لاستئصال شأفة الإسلام والمسلمين.

وهكذا نرى أن آثار معركة بدر بقيت عالقة بكيان قريش دون أن تستطيع إزالتها، بالرغم من محاولتها الجادة، وهيهات أن يستطيع الإنسان دفع شيء أنزله الله به، ومن يهن الله فما له من مكرم.

آثار بدر في المدينة:

أ ـ المسلمون:

 لقد فرح المسلمون بنتائج هذه المعركة فرحاً عظيماً، وازدادوا إيماناً ويقيناً بأن الله سبحانه ناصر من يجاهد فيه مهما كثر العدو، وتكالبت الظروف، وارتفعت معنوياتهم  ارتفاعاً ترك أثره في الأسلوب الذي جعلهم يعالجون به علاقاتهم بالطوائف الأخرى التي تساكنهم المدينة، لقد كانوا قبل بدر يصبرون على ما يلاقون من أذى هذه الطوائف وتعرضها لهم ولدعوتهم بما لا ينبغي.. أما بعدها فقد آن الأوان لأعمال شرط الطبيب في إزالة العلل المستعصية، وبتر الأعضاء المريضة التي لا سبيل إلى شفائها من جسم ذلك المجتمع، ومن هنا رأيناهم يقومون بعدد من عمليات البتر منها:

1 ـ بتر أبي عفك:

 كان أبو عفك شيخاً من بني عمرو بن عوف، وكان يُحرِّضُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول الشعر في إيذاء المسلمين، والصد عن سبيل الله، وقد صبر عليه المسلمون غير أنه لم يرعو، ولم تنجح فيه سياسة الصبر والرفق، وحين لم يبق في القوس منزع، وأضحى لا بدَّ من بتره نذر سالم بن عمير ليقتلنه أو ليموتن من دونه.

وجعل سالم يطلب أبي عفك حتى كانت ليلة من ليالي الصيف الحارة ونام أيو عفك بفناء داره، فاقبل سالم البطل، فوضع السيف على كبده، ثم اعتمد عليه حتى نفذ إلى الفراش، وهكذا بتر هذا العضو المزمن حين لم يكن بدٌّ من بتره، وكان ذلك في شوال على رأس عشرين شهراً من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وعاش سالم بن عمير رضي الله عنه حتى توفي في خلافة معاوية، بعد أن شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدراً وأحداً، والخندق والمشاهد كلها، فجزاه الله عن الإسلام وأهله خيراً.

2 ـ بتر عصماء بنت مروان:

 كانت عصماء هذه يهودية، وكانت تعيب الإسلام وتُؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقول الشعر وتُحرِّضُ عليه، ولما استمرَّت في إيذائها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، جاءها عُمير بن عدي في جوف الليل، ودخل عليها بيتها، وكان حولها نفر من ولدها ينام وإلى جانبها رضيع، فجسَّها بيده، وكان أعمى فلما تحقق منها نحى الرضيع ووضع سيفه على صدرها، واعتمد عليه حتى أنفذه من ظهرها.

ثم صلى الصبح مع النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، فقال صلى الله عليه وسلم له: أقتلت ابنة مروان ؟ قال: نعم. فهل عليَّ في ذلك شيء ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لا ينتطح فيها عنزان. وأثنى عليه النبي صلى الله عليه وسلم بعد قتله عصماء، فأقبل على الناس وقال: (من أحبَّ أن ينظر إلى رجل كان في نصرة الله ورسوله فلينظر إلى عمير بن عدي ) فقال عمر رضي الله عنه: انظروا إلى هذا الأعمى الذي يرى، فقال صلى الله عليه وسلم: «مَهْ يا عمير فإنه بصير » وسماه البصير لما رأى من كمال إيمانه وقوة قلبه في الله.

ولما رجع عُمير إلى قومه بعد قتل عصماء، وجد بنيها، وهم خمسة رجال في جماعة يدفنونها، فال: أنا قتلتها، فكيدوني ثم لا تنظرون، فوالذي نفسي بيده، لو قلتم بأجمعكم ما قالت لضربتكم بسيفي هذا حتى أموت أو أقتلكم.

وقد كانت هذه الخطوات التي خطاها المسلمون أمراً لا بدَّ منه في وقته وبحسب الظروف التي كانت تواجه الدعوة.

ب ـ المشركون والمنافقون:

 لقد استاء مشركو المدينة ومنافقوها لما سمعوا زيد بن حارثة، وهو على القصواء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم يبشِّر بالفتح ويعدِّد أسماء قتلى قريش وبعض أسماء قتلى قريش وبعض أسراها، ولما انجلى الموقف: صُدم المشركون بالحقيقة الواقعة  التي لا تدفع استكانوا، وصانعوا المسلمين. أما المنافقون فقد غاظهم انتصار المسلمين وضاقوا به أيما ضيق، واستمروا يتآمرون على الدعوة في الخفاء، ويتعاونون مع إخوانهم اليهود ولم يكتفوا بذلك بل انحدروا إلى مستوى العمالة لقريش، والروم، ونصارى العرب.

ج ـ اليهود:

 لقد كان وقع نتائج بدر شديداً على نفوس اليهود المقيمين في المدينة شدة الصواعق، فهذا كعب الأشرف لما انتهت إليه نتائج المعركة قال: أحق هذا ؟ أترون أنَّ محمداً قتل هؤلاء فإنهم أشراف العرب، وملوك الناس!! والله لئن كان محمد أصاب هؤلاء القوم، لبطن الأرض خير من ظهرها.

ولما تحقق اليهود صحة ما سمعوا من أنباء معركة بدر خضعوا واستكانوا وفي النفوس ما فيها من الحقد والحسد يغليان غليان القدور غير أن هذا الهدوء لم يدم بل انكشف عن مؤامرات وتحركات وألوان من الاستعداد لضرب الدعوة ضربات قاضية.

فهذا عدو الله كعب بن الأشرف، لما تحقق من صحة ما أذاعه زيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة رضي الله عنهما لم يطق صبراً، بل شد الرحال إلى مكة، وجعل يحرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينشد الأشعار ويبكي أصحاب القليب الذين أصيبوا ببدر.

ولما رجع إلى المدينة من رحلته الآثمة جعل يُمْعن في الإساءة للمسلمين والتطاول على كرامتهم وأعراضهم، فشبَّب بنسائهم وآذاهم  إيذاء لا يحتمل، وعندئذ لم يكن بد من وضع حد نهائي لنشاطه الهدام المعادي، ولم يكن بد من بتره وإزالته، وهذا ما حصل في ربيع الأول على رأس خمسة وعشرين شهراً من هجرته صلى الله عليه وسلم. وبعد قتل هذا الأثيم الذي أكثر من الصد عن سبيل الله ومن الوقوف في وجه الدعوة أهدر عليه الصلاة والسلام دماء اليهود جميعاً، وأذن في قتل من ظفر به منهم جزاء وفاقاً، لكيدهم للإسلام، ونقضهم الميثاق الذي عقده الرسول صلى الله عليه وسلم بين أهل المدينة قاطبة بعيد الهجرة.

إن كل ما ذكرناه آنفاً من بتر أبي عفك، وعصماء بنت مروان، وكعب بن الأشرف، وإهدار دم من ظفر به من اليهود، إنما كان تأديباً لهم على مستوى الأفراد، وكان هناك نوع آخر من التأديب وهو التأديب، على مستوى القبائل وذلك ما تحكيه لنا غزوة بني قينقاع.

كان بنو قينقاع أشجع يهود المدينة، وأشدهم بأساً، وكانوا صاغة وتجاراً، ولما كانت غزوة بدر، أظهروا البغضاء والحسد، والتحدي للمسلمين، والجرأة على الله ورسوله، ولما جمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد غزوة بدر في سوقهم وقال لهم: يا معشر يهود احذروا من الله مثل ما نزل بقريش من النقمة وأسلموا فإنكم قد عرفتم أني نبيٌّ مرسل تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم: قالوا له: يا محمد إنك ترى أنا قومك ؟ لا يغرنّك أنك لقيتّ قوماً لا علم لهم بالحرب، فأصبت منهم فرصة، إنا والله لئن حاربناك لتعلمن أنا نحن الناس، فأنزل الله تعالى فيهم قوله:[قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ المِهَادُ قَدْ كَانَ لَكُمْ آَيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ العَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الأَبْصَارِ] {آل عمران:ـ12ـ 13}.

وإلى هنا نرى أن اليهود قد جاؤوا بكثير من الأعمال التي من شأنها أن تجعل تأديبهم أمراً ضرورياً لا مناص منه، وتهيئ الجو للإيقاع بهم. في مثل هذه الظروف جاءت حادثة المرأة المسلمة التي أساء إليها الصائغ اليهودي، وشرذمة من قومه... وبعد هذه الحادثة أنزل الله تعالى قوله:[وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الخَائِنِينَ] {الأنفال:58}.فقصدهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم وحاصرهم خمسة عشر يوماً حتى قذف الله تعالى في قلوبهم الرعب، فنزلوا على حكمه صلى الله عليه وسلم، وأُجلوا عن المدينة، وتركوا الأموال والسلاح.

وكانت هذه الغزوة في النصف من شوال سنة اثنين من الهجرة.

هذه لمحة خاطفة عن آثار غزوة بدر في اليهود، وقد كانت جزاء وفاقاً لخيانتهم العهود، وتآمرهم على الدعوة، ومحاولتهم الوقوف في سبيلهم، ومشاقّتهم لله ورسوله...ولكنهم لن ينتهوا عن غيهم... وسيبقون على ما هم عليه من الطباع والأعمال حتى تحيق بهم سيئاتهم، ويجنوا على أنفسهم، فيخرج بنو النضير من المدينة بعد غزوة أحد، ويقضى على بني قريظة القضاء العادل الرادع بعد غزوة الأحزاب، بل حتى ينتهي وجودهم في الحجاز وجزيرة العرب، وهذه قصة يهود عبر تاريخهم كله مع شعوب العالم كافة: استغلال هذه الشعوب، وتأمر عليها، وجحود لمعروفها.

آثار بدر في القبائل العربية.

كانت القبائل العربية قبل بدر لا تعير المسلمين الاهتمام الذي يستحقونه لقد كانت تنظر إليهم كأناس مستضعفين يهاجرون من بلادهم، ويلتمسون لهم ملجأ في المدينة... أما بعد بدر فقد أدركت أنهم صاروا قوة خطيرة، يجب ألا يتغاضى عنها، بل يجب أن يقضى عليها.

وقد أذكى هذا الشعور لدى هذه القبائل ما اعتادته من احترام قريش، أهل الحرم، وسَدَنة البيت، كونهم مجتمعين على دين واحد.

وهناك عامل آخر أذكى هذا الشعور، وهو ما كانت تجنيه هذه القبائل من فوائد من جراء مرور قوافل قريش التجارية في أراضيها.

وبانتصار المسلمين في بدر أضحت هذه القبائل ـ فيما تراءى لها ـ مهددة بأخطار جسيمة دينية واقتصادية وسياسية، ومن ثم جعلت تتحضر للقضاء على الدعوة مما جرَّ على المسلمين حرج غير قليل غير أنهم ارتفعوا إلى مستوى المواجهة، وقاموا بعدد من الغزوات المتلاحقة يفاجؤون بها القبائل قبل أن تتحرك نحوهم، حتى ردوها إلى الصواب كارهة أو طائعة.

صدى بدر:

لقد تجاوز صدى بدر مداها المكاني، كما تجاوز مداها الزماني، لقد بلغ صداها أرض الحبشة وغيرها من الدول المجاورة، وتغلغل فيما تلاها من القرون.

أخرج الحافظ البيهقي أن النجاشي أرسل ذات يوم إلى جعفر بن أبي طالب وأصحابه، فدخلوا عليه، فقال لهم: إني أبشركم بما يسركم: إنه جاءني من نحو أرضكم عين لي فأخبرني أنّ الله قد نصر نبيه صلى الله عليه وسلم، وأهلك عدوه، وأنه أُسر فلان وفلان، وقُتل فلان وفلان، التقوا بواد يقال له: بدر كثير الأراك، كأني أنظر إليه.

إن معركة بدر كانت معركة تاريخية فاصلة، لا في تاريخ الإسلام فحسب، بل في تاريخ العالم الذي تأثر جد التأثر بظهور الإسلام وانتصاره، وما انبثق من حضارة أثرت وما تزال تؤثر في  حياة الإنسان.

إن هذه المعركة كانت كبيرة الآثار في قريش، وفي المسلمين، وفي الطوائف التي كانت في المدينة، وفي قبائل الجزيرة العربية، وقد مكَّنت للدعوة أيما تمكين ولكنها في الوقت نفسه أثارت في وجهها صعاباً جسيمة، وأورثتها مسؤوليات كبيرة، غير أنَّ الدعوة نهضت بواجبها خير نهوض في وجه هذه الصعاب والمسؤوليات. وخرجت من حَوْمة الصراع ظافرة غالبة.

أسباب النصر في معركة بدر:

ترجع أسباب انتصار المسلمين في هذه المعركة الفاصلة من حيث الجوهر إلى السنن التي تشير إليها الآيات الكريمة:[ وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ] {الحج:40}. [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ] {محمد:7}. [إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ] {آل عمران:160}. [وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ] {الرُّوم:47}..

وأما من حيث التفصيل فيرجع هذا النصر إلى أمور منها:

1 ـ شوق المسلمين إلى الشهادة في سبيل الله، وطلبهم الجنة ببذل الطارف والتليد في مرضاة الباري عزَّ وجل، مما يورث روحاً معنوية، وليس بخافٍ أثر الروح المعنوية في تحقيق النصر.

2 ـ صدق القيادة، وحكمتها، وكونها قيادة من خلال مشاركة الجنود في تحمُّل ألوان الأعباء، فلقد شاركت هذه القيادة النبوية جنودها في المسير إلى الأعداء، وفي عمليات الاستطلاع، وفي خوض المعركة ولقاء العدو لقاءاً مباشراً.. قال سيدنا علي رضي الله عنه: كنا إذا حمي الوطيس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد رأيتنا يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أقربنا إلى العدو، وكان من أشد الناس يومئذ بأساً.

3 ـ لقد طلع النبيّ صلى الله عليه وسلم على الأعداء بأسلوب جديد في القتال، وهو أسلوب الصف، فكان له أثره في تحقيق النصر، والتاريخ الحربي يشهد بأن تطبيق القادة العظام أساليب جديدة غير معروفة في القتال كان له أثره في الانتصارات التي أحرزوها.

وهكذا نرى أن أسباب الانتصار العظيم الذي حققه المسلمون في بدر كانت تكمن في اتباع سنن الله التي علَّمنا إياها القرآن العظيم، وسنته تقضي بأن النصر لمن اتقاه وتوكل عليه، وإن الله سبحانه يؤتي المسلمين نصره، حين يحققون الإسلام في أنفسهم عقيدة وسلوكاً [وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ] {الحج:40}.

الخميس 13/شعبان/1400

الأردن ـ الزرقا

وكتبه مجد مكي

مختصر من كتاب «من آثار غزوة بدر »د. أحمد محمود الأحمد

أثر بدر في التاريخ

إنَّ المعارك الفاصلة في تاريخ البشريَّة، لا تتوقف أهميتها على ضخامة الجيوش المقاتلة فيها، ولا تقوم خطورتها على غزارة الدماء التي سفكت ولا على كثرة الأرواح التي أزهقت. إنما تقاس أهمية المعارك بمدى تأثيرها في حياة البشرية، ومدى انتفاع المجتمع الإنساني بالنتائج التي انتهت إليها، والعبر التي تستمد منها، والمثل العليا التي كافحت دونها، والمبادئ القويمة التي غرستها.

فكم من معارك اشتبكت فيها عشرات الألوف والملايين، واستمرت العديد من الشهور والسنين، وسالت فيها الدماء أنهاراً، وملأت الأرض خراباً ودماراً، فلما وضعت أوزارها وخمدت نيرانها، لم يبق من آثارها إلا الذكريات الأليمة، والأحقاد المريرة، وإذا بكل ذلك وغيره وقد طوته الأيام في دورتها، وابتلعته الأحداث في تتابعها.

والأمثلة على ذلك كثيرة، قديماً وحديثاً، فالمعارك الدامية بين الفرس والروم، وفتوحات الإسكندر الأكبر ونابليون، والحروب العالمية الأولى والثانية، كل هذه الحروب المدمرة وأمثالها، انتهت من حيث بدأت، دون أن تترك أثراً في حياة البشرية أيُّ أثر، ودون أن تحدث في المجتمع الإنساني أي تطور، لأنها لم يكن لها من هدف إلا التغلب والاستعلاء، وإلا الفخر والخيلاء، ولأنها لم تكن لخير البشرية وسعادتها، وإنما كانت لضررها وشقاوتها، لم تكن كفاحاً في سبيل مُثل عليا، أو غاية نبيلة، وإنما كانت دفاعاً في سبيل أهواء مضللة، وشهوات رخيصة، لم يكن فيها ذرة واحدة لله، ولا هدف واحد لخدمة الإنسانية، ولا مثل واحد تستمد منه الأجيال اللاحقة ما تنتفع به في حاضرها ومستقبلها، أو يرتفع بمستوى المدنية والحضارة فيها.

في حين نجد أن غزوة بدر الكبرى، رغم ضيق نطاقها، سواء فيما يتعلق بالمكان الذي وقعت فيه، أو الزمن الذي استغرقته، أو الأعداء المتقاتلة فيها، أو الضحايا الذين سقطوا بها. بالرغم من كل ذلك فإن هذه الغزوة قد تركت آثارها الخالدة في حياة البشرية، لأنها كانت صراعاً بين مبدأين متناقضين: بين الإيمان وما يقوم عليه من تحرير النفوس من العبودية إلى الله والعقول من الخوف إلا منه، والذل إلا له، وبين الشرك وما يدعو إليه من عبودية للأصنام، وخضوع للظلم والطغيان ورضا بالذل والهوان...

وكانت كفاحاً بين تعاليم الإسلام وما تدعو إليه من هداية ونور، ومحبة وسلام، وأخوة وتعاون، وعدالة ومساواة.. وبين تقاليد الجاهلية، وما تقوم عليه من جهالة وضلال، وثارات وفتن، وبغي وعدوان، وسخائم وأحقاد...

ومن هنا اعتبرت معركة بدر، معركة فاصلة، في تاريخ الإنسانية، وظلت ذكراها خالدة، وآثارها مستمرة، رغم كر السنين، ومر القرون، وستظل كذلك حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

ويكفي لبيان قيمة هذه المعركة الصغيرة، موقف النبي صلى الله عليه وسلم منها قبيل وقوعها، ومدى تقديره لخطورتها حتى إنه ليقضي ليلها قائماً قاعداً، يصلي ويدعو، ويرفع يديه مناشداً ربه ما وعده من النصر ويقول: «اللهم إن تظهر على هذه العصابة، يظهر الشرك ولا يقم لك دين».

وهكذا خلد التاريخ بدراً، رغم أن عدد الذين اشتبكوا فيها لا يتجاوزون المئات، وعدد الذي قتلوا أو استشهدوا لا يزيدون عن عشرات، وعفى على آثار المعارك الكبرى، رغم أن ضحاياها بلغت الألوف والملايين..!!

خلد التاريخ بدراً رغم أنها لم تستمر إلا ساعة من نهار، وأهمل ذكرى  الحروب الهائلة التي استمرت الشهور والأعوام..!!

خلد التاريخ بدراً رغم أن ميدانها لم يتعد نهاية البصر، وغضَّ من قيمة الصراعات العالمية، التي غطت بنيرانها مشارق الأرض ومغاربها.

وهكذا نرى ملايين المسلمين في كل عام يحتفلون بذكرى هذه المعارك الخالدة، الصغيرة في حجمها، الكبيرة في آثارها، يستمدون منها الدروس والعبر، ويستعيدون مواقف البطولة والإيمان، وصور الفداء والاستشهاد ما يجددون به الههم، ويشدّون به العزائم، ويبعثون به موات النفوس والأرواح.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم 

من كتاب «سيد شباب أهل الجنة»للشيخ: حسين يوسف

السبت 25/ذي القعدة 1400 ـ مكتبة جامعة الملك عبد العزيز في مكة

نشرت 2014 وأعيد تنسيقها ونشرها 28/4/2021

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين