منهجُ الحياةِ الذي رَسَمَتْه رِحْلَة الإسراء والمعراج

الشيخ مجد أحمد مكي

لقد اختارَ الله عزَّ وجل أياماً جعلها مواقيت لرحماتٍ قدسيَّة، امتنَّ الله فيها على عبادِه بنعمٍ جَليلة وأَضْفَى عليهم خَيراً كَثيراً وفَضْلاً عظيماً، وتمرُّ هذه المواقيت بالمسلم اليقظ في مواعيدها المحدَّدة فتحمل معها كل معاني الخير والهدى والإيمان... ويعيش المؤمنون في هذه الأيام ذكرى معجزةٍ خارقة عظيمة، أكرم الله بها إمام الهدى وخاتم النبيين..
إنها ذكرى معجزةٍ طُويت فيها - لمن أرسله الله رحمة للعالمين - أبعادُ الأرض، وآمادُ الزمن في رحلةٍ عجيبة فريدة كريمة... أسرى الله فيها بعبده محمد صلى الله عليه وسلم ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وعَرَج به في السموات العلى... إلى سدرة المنتهى، حتى وصل إلى المستوى الذي تنقطع عنده علوم الخلائق، ولا يعرف كنهه أحد... حيث سمع صريف الأقلام، ورأى عجائب قدرة الله، وبدائع صنعه، وآياتِ عظمته.
وليس من شأني في هذا الحديث القصير أن أتحدث عن الإسراء والمعراج من الناحية العلميَّة والتاريخيَّة، وأن أقيم الدليل العقلي والعلمي على إمكانِ وقوع هذا الحادثِ العظيم... وإنما نريد من هذا الحديث أن نبحث عن مغزى هذه المعجزة وفائدتها في حياتنا العمليَّة، ذلك أنَّ هذه الذكرى الكريمة تتصل بحالتنا الحاضرة أوثقَ اتصال، ونحتاجُ إليها في مُشكلاتنا القائمة أشدَّ الحاجة. 
فما أثر هذه المعجزة في حياتنا، وما صلتها بمشاكلنا؟.
والحقُّ أن لهذه المعجزة دلالات بالغة الأثر في أوضاعنا القائمة فقد رسمت لنا منهج حياة في الناحية الدينيَّة، والاجتماعيَّة، والأخلاقيَّة، والسياسية.
إنَّ مما تَرمُز إليه هذه الحادثة من النواحي الدينيَّة الإشارة إلى وحدة دعوةِ الأديان الإلهية وأخوَّةِ الرسل؛ فقد اتصل مهبط وحي الله في رحاب المسجد الحرام، بمهبط وحي الله في ربوع المسجد الأقصى، وصلى  خاتم الرسل بالأنبياء إماماً، وضمَّت جوانح الأقصى حملة هداية الله صفاً واحداً مُتراصاً، وموكباً مُتصلاً مُترابطاً، جمع الله فيه عباده المرسلين، للصلاة خلف خاتم النبيين، ورسول رب العالمين صلى الله عليه وآله أجمعين.
فاتصل بذلك ماضي الإيمان بحاضره، وتلاقى بدء الرسالة بختامها، وتجلى بذلك المشهد الفذِّ الكريم أنَّ الإسلامَ هو رسالةُ الله الخاتمة إلى عباده: [وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ] {آل عمران:81}
لقد تمَّ بالإسلام حقاً صرحُ الإيمان الشامخ المكين، وتمَّ به بنيانُ الحقِّ الراسخ المتين، وفي ذلك روى البخاري (3535)، ومسلم (2286)، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلَّم قال: (مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثلِ رجل بنى بنياناً فأحسنه وأجمله إلا موضع لبِنة من زاوية من زواياه، فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون به ويقولون : هلاَّ وضعت هذه اللبنة، فأنا تلك اللبنة وأنا خاتم النبيين).
ومما ترمز إليه ذكرى الإسراء والمعراج من الناحية الدينيَّة: أنَّ الصلاة قد فُرضت في السماء لكي يعلم المسلم أهميتها ومنزلتها الكبرى، وكأنها تقول للمؤمن: إذا كان من المحال أن تعرج إلى السماء بجسمك فاعرج إليها بقلبك وروحك! وذلك في اللحظات التي تقفُ فيها خاشعاً لله رب العالمين.
فليست الصلاة طقوساً ولا حركات آليَّة، لا يُعقل لها مَعنى، وإنما هي مدرسة تربّي المؤمنين، على أنبل معاني الخير والحب والفضيلة في زحمة الحياة وصَخَبِها وشُرورها، فما أحرانا أن نُعاهدَ الله عزَّ وجل على أن نتَّخذ الصلاة ركناً وعماداً، ونحافظ عليها أداءً وجماعة، لنسمُوَ بنفوسنا نحو الفضيلة والأخلاق، ونحلَّق بأرواحنا في عالم علوي حيث الصفاء والإشراق.
أمَّا من تكاسل عن أدائها فحسبنا أن نذكره بما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في معراجه من عقوبة تارك الصلاة فيما يرويه البخاري (1143) عن سَمُرة بن جندب أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الرؤيا عن الذي يُثلغ رأسُه بالحجر، فإنه يأخذ القرآن فيرفضه، وينامُ عن الصلاة المكتوبة.
فالصلاة في الوضع الإسلامي عماد الدين فمن أقامها فقد أقام الدين، ومن هدمها فقد هدم الدين، فقد روى الإمام مسلم (82) عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (إنَّ بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة). 
وروى الترمذي (2621) عن بريدة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (العهد الذي بيننا و بينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر)، وقال الترمذي: حسن صحيح غريب.
فيا أيها  المسلمون: الصلاةَ الصلاة فإنما هي الصلة بالله سبحانه وتعالى... وإنها فترة انقطاعٍ عن عالم المادة والشهوات... إنها البراقُ الذي يجتاز به المؤمنُ طبقاتِ البعد عن الله ليتقرَّب إليه فينعم في رحابه، ويشعر ببرد اليقين وحلاوة الإيمان، وصدق الله العظيم القائل: [إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا(19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا(20) وَإِذَا مَسَّهُ الخَيْرُ مَنُوعًا(21) إِلَّا المُصَلِّينَ(22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ(23) ]. {المعارج}. .
فضل المجاهدين ومكانتهم:
ومما ترمز إليه ذكرى الإسراء والمعراج من الناحية الدينية: أهمية الجهاد ومكانته فقد روى الطبراني والبيهقي في الدلائل (679) أنَّه عليه الصلاة والسلام: (مرَّ على قومٍ يزرعون ويحصدون في يومٍ، كلما حصدوا عاد كما كان، فقال لجبريل عليه السلام : ما هذا؟ قال: هؤلاء المجاهدونَ في سبيل الله، تضاعف لهم الحسنة إلى سبعمائة ضعف، وما أنفقوا من شيء فهو يخلفه، و هو خير الرازقين).
وللجهاد في الإسلام مكانةٌ عظمى فقد روى البخاري (2518)، ومسلم (84)، عن أبي ذر رضي الله عنه قال: (يا رسول الله أيُّ الأعمال أفضل؟ قال: الإيمان بالله، والجهادُ في سبيله). والجهادُ في سبيل الله أوسع وأعم من أن يقتصر على الجهاد القتالي، إنَّ من أنواع الجهاد في سبيل الله تعالى : جهاد النفس حتى تستقيم على أمر الله، وجهاد الأسرة، وجهاد المجتمع، وجهاد المال، وجهاد الدعوة والتبليغ، روى الإمام مسلم (1910) عن أبي هريرة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من مات ولم يغز ولم يحدث به نفسه مات على شعبة من نفاق).  وروى الترمذي (1666) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (من لقي الله تعالى بغير أثرٍ من جهادٍ لقي الله وفي إيمانه ثلمة).
معشر المؤمنين: ومن رموز هذه الذكرى من الناحية الاجتماعية والأخلاقية ذلك  الوصف الكريم الذي وصفَ الله به رسوله عليه الصلاة والسلام، لقد وصفه بالعبودية حين قال: [سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ]، فقال سبحانه بعبده، دون نبيه أو حبيبه؛ لأنَّ وصفه بالعبودية المضافة إلى الله تعالى من أشرفِ المقامات فليس للمؤمن صفة أتمُّ وأشرفُ من العبودية، ولهذا أطلقها الله تعالى على نبيه في أشرفِ المواطن كقوله: [الحَمْدُ للهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الكِتَابَ] {الكهف:1}، [تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ] {الفرقان:1}، [سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ] {الإسراء:1}، فهو عبدٌ مع أنَّه كان في أشرف مقام وأعلى منزلة، فأيُّ إنسان بعد ذلك مهما سمت مكانته في الحياة يحق له أن ينسى عبوديته، فيعيش في أمته متألهاً عليها مترفعاً عنها معتزاً بسلطان الحكم وسيطرة القوة.
إنَّ أحداً من الناس مهما أوتي من بسطة في الجاهِ وتمكين في الحكم والنفوذ : لا يحقُ له أن ينسى عبوديتَه وخضوعه لسلطان الله وجبروته، ويومَ يذكر الحاكمون والمسيطرون والمتغلبون على مقادير الشعوب هذه الحقيقة يعيش الناس في أمنٍ وسلام، وما تشقى المجتمعات والشعوب إلا يوم يطغى عليها الطغاة فيسلبون إرادتها وحرياتها، زاعمين أنَّ لهم حقاً فوق حقها، وأنَّ لهم من صفاتِ الربوبية ما يعطون ويمنعون ويصلون ويقطعون ويميتون ويحيون!! ألا  إنَّ ذلك من صفاتِ اللهِ وحدهِ، فمن نازع الله سلطانه قصمه الله، وجعله نكال الآخرةِ والأولى.
ومن دروس هذه المعجزة الخالدة : الإشارة إلى أكبرِ الجرائم الاجتماعية وأشدها خطراً على الأفراد والجماهير، فلقد تحدثت قصة الإسراء عن الزُّناة والمرابين والمغتابين:
أما الزناة فقد صوَّرتهم القصة أروع تصوير، إذ كان بين أيديهم لحم ينضج في قِدر، ولحم نيء خبيث في قدر، فجعلوا يأكلون من النيئ الخبيث، ويدعون النضيج، فقال: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هذا الرجل من أمتك تكون عنده المرأة الحلال الطيب فيأتي امرأة خبيثة فيبيت عندها حتى يصبح، والمرأة يكون عندها الرجل الحلال فتأتي رجلاً خبيثاً فتبيت عنده حتى تصبح) قال الهيثمي في المجمع: 1:72 رواه البزار ورجاله موثقون، إلا أن الربيع بن انس قال عن أبي العالية أو غيره فتابعيه مجهول.
وهكذا يعيش عبيد الشهوات في الحياة: يُعرضون عن جوِّ الزوجية الهانئة السعيدة؛ ليعيشوا في أقذار منتنة من استباحة الأعراضِ وانتهاك الحرمات... والله سبحانه وتعالى بقول :[الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ] {النور:2}.
 إنَّ الزنى من أعظمِ المفاسد وأخطر الفواحش ذلك أن سهولة قضاء الشهوة عن طريق الزنى يجعل الحياة الزوجية نافلةً لا ضرورة لها، ويجعل الأسرة تبعةً لا داعي إليها.. والبيت هو اللبنة الأولى في بناء الجماعة، والأسرةُ هي المحضنُ الصالح للفراخ الناشئة. 
إنَّ الإسلام يريدُ مجتمعاً طاهراً نظيفاً تُؤدَّى فيه كلُّ الوظائف الحيوية،وتلبَّى فيه كلَّ الدوافع الفطرية على أساس الأسرة الشرعية المتينة القوائم، وعلى البيتِ العلنيِّ الواضح المعالم.
وأما المرابون فقد رآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري (1386) (...أَتَيْنَا عَلَى نَهَرٍ مِنْ دَمٍ فِيهِ رَجُلٌ قَائِمٌ، عَلَى وَسَطِ النَّهَرِ، وَعَلَى شَطِّ النَّهَرِ رَجُلٌ بَيْنَ يَدَيْهِ حِجَارَةٌ، فَأَقْبَلَ الرَّجُلُ الَّذِي فِي النَّهَرِ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ رَمَى الرَّجُلُ بِحَجَرٍ فِي فِيهِ فَرَدَّهُ حَيْثُ كَانَ، فَجَعَلَ كُلَّمَا جَاءَ لِيَخْرُجَ رَمَى فِي فِيهِ بِحَجَرٍ فَيَرْجِعُ كَمَا كَانَ.
أجل إن هؤلاء المستغلين المستثمرين لجهود الناسِ والذين يغرقون في الترفِ والنعيم على بؤسِ الأمة وشقائها.
إنهم ليغرقون في دماء الشعب التي اعتصروها من جهوده فتنقلب نعمة العيش التي  انتزعوها من فم الأبناء والبنات والأمهات أحجاراً تشدخ فيها تلك الرؤوس التي خلت من أيِّ معنى إنساني كريم، وهكذا يتخبَّطون في الحياة بدماء الشعب، ثم يأكلون في بطونهم ناراً تقطَّع أمعاءهم يوم القيامة.
إنَّ الربا من الخبائث العظيمة المحرَّمة يقول تعالى: [الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ] {البقرة:275}. وإنَّ كثيراً من المسلمين اتَّبعوا أهواءهم وتعاملوا بالربا فخسروا دينهم ودنياهم، وباؤوا بالخسران العظيم: [يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ] {البقرة:276}. 
ولقد وعد الله أكَلَةَ الربا بحربٍ من الله ورسوله لا تبقي ولا تذر: [فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ] {البقرة:279}. 
إنَّ الإسلام شدَّد في أمر الربا وتحريمه وعدَّه شراً من الزنا، فقد روى الإمام أحمد (21957)، والطبراني عن عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد من سبعة وثلاثين زينة ). قال الهيثمي في المجمع: رجال أحمد رجال الصحيح. وروى الحاكم (2259) في مستدركه، وصحَّحه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الربا ثلاثٌ وسبعون باباً أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمَّه) قال الذهبي: على شرط البخاري ومسلم.  وأخرج الحاكم (2261) وصحَّحه، والطبراني في الكبير(460) عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا ظهر الزنا والربا في قرية فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله عزَّ وجل). قال الذهبي في التلخيص: صحيح.
بل قد امتدَّ التحريم إلى كتابة الربا والشهادة عليه، فقد روى الإمام مسلم (1598) عن جابر رضي الله عنه قال : لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه (قال : هم سواء). وهذه الشدة في الربا عمل على قطع دابره في الأرض لأنه امتصاص لدماء الناس واستغلال لجهودهم بلا مقابل.
وأما المغتابون الذين اتَّخذوا غيبة الناس صنعة ومهنة، وأصبحت فاكهة مجالسهم، فقد رآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه الإمام أبو داود (4878)، وأحمد (13340)، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس، يخمشون بها وجوههم وصدورهم، فقلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ قال :( هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم).
إنَّ أشدَّ ما يتقزز منه الإنسان وينفر منه طبعُهُ أن يتناول لحم ميتٍ ليأكله، وأشد من ذلك أن يكون الميتُ أخاه :[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ] {الحجرات:12}. إن الغيبة أمرٌ سهل لا تكلف المستغيب شيئاً، ولكنها ستحول أظافره يوم القيامة إلى نحاس يخمش بها وجهه وصدره، يخمش بها وجهه ليشوِّه مكان الجمال كما شوَّه جمال الناس، ويخمش بها صدره؛ لأنه نبش الدفائن وأثار الأحقاد : فحقيق أن يخمش صدره و هو مكان الحسرة والحقد.
ثلاث صورٍ لثلاثِ جرائم من أكبر الجرائم الاجتماعية خطراً... بل منها تنشأ كل الجرائم تلك هي الاعتداء على الأعراض، والجشع في جمع الأموال عن طريق الربا، وأكل لحوم الناس بالغيبة.
معشر المسلمين: ومن دروس هذه الذكرى من الناحية السياسية أنها ربطت بين مهبط وحي الله في رحاب المسجد الحرام، وبين مهبط وحي الله في ربوع المسجد الأقصى. 
ولقد وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الإسراء أمانةً عظيمة في أعناقنا، وهي أن نُحرِّر المسجد الأقصى من براثن اليهودية الغادرة، وأن نخلِّص أرض الإسراء والمعراج من الغزاة المُعتدين والبُغاة الظالمين.
فيجبُ أن نطلق مواكب التحرير من هاتين البقعتين وتسير كتائب الإيمان من هذين المسجدين... ليهتدي العالم الضال والإنسانية الحائرة بنور الإيمان ورسالة الإسلام...
ألا إنَّها لكبيرةٌ أيَّ كبيرةٍ أن نذكر الإسراء والمعراج ومسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومصلّاه بالأنبياء ومنطلق عروجه إلى السماء تحت سلطان اليهود، وإنَّها لكبيرة أشد وأنكى أن يموت الحسُّ ويتبلد الشعور، ويموت في قادة الشعوب الضمير، فلا ينتصرون لمنكوب، ولا يأبهون لمغلوب، تسود بينهم شريعة الغاب، ويستبد بهم منطق الظفر والناب، فإذا المسلمون - في طوفان الشر المتلاطم ـ كالأيتام على مأدبة اللئام... وتأتي الذكرى العظيمة؛ ذكرى الإسراء والمعراج، لتهتف بالمسلمين أن يعرفوا طريقهم، ويعيشوا قضيتهم، ويواجهوا أعداءهم، فلا يجدر بهم وهم روادُ الحرية والكرامة أن يبقوا أسارى في أغلال الظلم، يتامى على مآدب اللؤم.
تأتي هذه الذكرى لتؤكد أن إسرائيل لن تزول، وفلسطين لن تتحرر إلا على أيدي المؤمنين المتوضئين الصادقين، الراكعين الساجدين، الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، والحافظين لحدود الله الذين يخوضون المعارك أطهاراً متوضئين، أولئك الذين لا يقف لهم أحد، ولا تصمد أمامهم قوة، إذا نادى فيهم المنادي :حي على الجهاد، يا رجال القرآن زينوا القرآن بالفعال، أولئك الذين آمنوا بأنهم إذا فقدوا ولاية الناس ونصرة العالم ومساعدة  الدول فإن معهم الله جل شأنه :[ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا] {الأحزاب:3}  [وَكَفَى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللهِ نَصِيرًا] {النساء:45}.  وإنَّ معهم جنود الله :[ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ] {المدَّثر:31}. 
أولئك الذين ستتحرر بهم فلسطين، وتقتلع بهم اليهودية من أرض الإسلام، ليس لهؤلاء هدف إلا إعلاء كلمة الله، ولا عنوان إلا الإسلام، ولا شعاراً إلا العبوديّة لله تعالى، ولا هتاف  إلا: الله أكبر. 
لقد آن لنا...وأعاصيرُ الهول في ديارنا تشتد، وأمواج الشر من حولنا  تمتد، أن نستلهم في يوم الإسراء والمعراج هدي السماء فنعود مخلصين إلى ربنا... ونرجع صادقين إلى كتابه، ونتَّبع بحقٍّ سنة نبينا مُعتصمين بحبل الله  المتين، مجدِّدين العهد على أن نكون لدعوةِ الإسلام جندها الأقوياء، وأبناءها الأوفياء.
وبذلك وحده تتبدَّدُ الظلمات، وتنكشف الغمرات، وبذلك وحده نقهر الأعداء الحاقدين، وندحر الطغاة المعتدين، فنحطم قيود الاستعباد، وندكُّ أسوار الاستبداد، ونبرهن أننا - بحقِّ -أمة المجد والفخار... ونعلنُ للدنيا من جديد أن أمة العقيدة لا تهزم ولا تغلب، فلتكن هذه الذكرى حادي القلوب إلى الحق، وحافزَ الأرواح إلى السمو، وداعي العزائم إلى القوة، ونداء العقيدة إلى فجر الأمل، وصدق  العمل وذرى العدل والمجد والسلام: [...وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ  بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ] {الرُّوم:5}.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
 
انتهيت من تبيضه يوم الخميس 24/رجب/1398 الساعة 1.15 ظهراً، ولله الحمد والمنة.
وكتبه : مجد مكي
 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين