منزلة الشهادة في سبيل الله بالدماء السورية الزكية تُسقى شجرة العزة والكرامة

الحمد لله القائل : (( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألاّ خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين ))

        معاشر المسلمين ، لقد عظم الله جل وعلا شأن الشهادة في سبيله ورفع منزلة الشهداء ، فنوه بذكرهم ورفع مكانتهم وأجزل مثوبتهم ووعدهم من فضله بما لم يعد به غيرهم ، ذلك أنهم بذلوا أنفسهم لإعلاء كلمة الله ، وقبلوا الصفقة المباركة حين اشترى الله من المؤمنين الأنفس والأموال بالجنة ، فأقبلوا على ربهم يرفعون رايات البيعة الرابحة المعطرة بدمائهم الزكية ، ويخطون بدمائهم معالم طريق العزة والكرامة . قدموا على ربهم وقد بذلوا جهدهم في الذب عن أمة يستباح منها كل شيء .
 
لقد أكرم الله جل وعلا الشهيد بأنواع من الكرامات ، قال عليه الصلاة والسلام : " يُعطى الشهيد عند أول قطرة من دمه ست خصال : تكفر عنه خطاياه ، ويرى مقعده من الجنة ، ويزوج من الحور العين ، ويؤمن من الفزع الأكبر ، ومن عذاب القبر ، ويحلى حلّة الإيمان ". ولعظم أمر الشهادة فقد كانت أمنيّة رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: " لولا أن أشق على أمتي - أو قال : على الناس - لأحببت أن لا أتخلف عن سرية تخرج في سبيل الله ، و لكن لا أجد ما أحملهم عليه ولا يجدون ما يتحملون عليه ، ويشق عليهم أن يتخلفوا بعدى ، و لوددت أني أقاتل في سبيل الله ، فأقتل ثم أحيا فأقتل " . وفيه فضل الشهادة على سائر أعمال البر .
 
وطلب الشهادة من أقوى درجات تعلق القلب بربه جل وعلا فالشهيد يقدم على ربه جل وعلا وقد ترك الدنيا خلفه ولم يبق في قلبه غير الله و موعوده . ولهذا المعنى فقد أكرم الله من صدق في طلب الشهادة وإن فاتته قال صلى الله عليه وسلم : (( من سأل اللهَ الشهادةَ بِصدقٍ بلغ منازلَ الشهداء )) .
 
        معاشر المسلمين ، لقد كانت دماء الشهداء على الدوام وقود النصر ومشاعل النور الذي تخرج به الأمة  من غياهب الظلمات ، ولئن فات الشهيد فرحة النصر فقد أُكرم بلذة الفوز العظيم ورأى من فضل الله ما تتضاءل أمامه الدنيا بما حوت . والشهيد مؤمن صدقَ العهدَ مع الله ولقيه به (( مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً )) . والشهداء شركاء الأنبياء في تحمل الشدائد والصبر على اللأواء ، فقارب الله بين منازلهم وجعلهم في الجنان متجاورين فقال تعالى : ((وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً )) وقال سبحانه : (( وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ )) وقال تعالى : (( وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ )) .
 
معاشر المسلمين إن الشهادة في سبيل الله اصطفاء من الله لمن شاء من خلقه : قال تعالى: "وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء" ، وأعظم أبواب الشهادة القتل في مواطن الكرامة ، ومن أبوابها القتل دفاعاً عن النفس أو العرض أو المال فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( من قتل دون ماله فهو شهيد ، ومن قتل دون أهله فهو شهيد ، ومن قتل دون دينه فهو شهيد ، ومن قتل دون دمه فهو شهيد )) . وطالب الشهادة أجود الناس وأكرمهم لأنه يجود بأنفس مالديه : ( يجود بالنفس إن ضن البخيل بها * والجود بالنفس أقصى غاية الجودِ ) .
 
        وطالب الشهادة له صفات يُعرف بها فهو مع سماحته وإقدامه في غاية التذلل لمولاه جل وعلا والتواضع لإخوانه ، لا يهمه موقعه بقدر ما يهمه أن يقوم بواجبه خير قيام ، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : "طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه إن كان في الساقة كان في الساقة وإن كان في الحراسة كان في الحراسة ". هذه أخلاق طلاب الشهادة في سبيل الله وقد كان عامر بن عبد قيس وهو من العُباد المشهورين إذا خرج للغزو يقف يتوسم المجاهدين فإذا رأى رفقة توافقه قال لهم : يا هؤلاء : إني أريد أن أصحبكم للجهاد وأن أجاهد معكم على أن تعطوني من أنفسكم ثلاث خصال ! فيقولون : ما هي ؟ فيقول : الأولى : أن أكون خادمكم لا ينازعني أحد منكم في الخدمة ! والثانية : أن أكون مؤذنا لكم لا ينازعني أحد منكم في الأذان ! والثالثة : أن أنفق عليكم بقدر طاقتي ! هذه هي أخلاق طلاب الشهادة .
 
ولا عجب أن تكون هذه أخلاق من أقبل يحمل روحه بين كفيه ليسلمها لبارئها . ومن صفات طلاب الشهادة الإيثار ، يروي أبو الجهم العدوي فيقول : انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عمي ومعي شنة من ماء فقلت : إن كان به رمق سقيته من الماء ومسحت به وجهه فإذا أنا به يشهق فقلت له : أسقيك فأشار: أي نعم ,فإذا رجل يقول: آه , فأشار ابن عمي أن انطلق إليه , فإذا هو هشام بن العاص أخو عمرو بن العاص رضي الله عنهما , فأتيته فقلت : أسقيك ؟ فسمع رجلا آخر يقول: آه , فأشار هشام أن انطلق إليه , فجئته فإذا هو قد مات ! ثم رجعت إلى هشام فإذا هو قد مات!! ثم أتيت ابن عني فإذا هو قد مات !!! رحمهم الله جميعا . (( وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ )) ، وقال صلى الله عليه وسلم : " ما من نفس تموت لها عند الله خير ، يسرها أن ترجع إلى الدنيا ولها الدنيا وما فيها إلا الشهيد ، لما يرى من فضل للشهادة ، فيتمنى أن يرجع فيقتل مرة أخرى " . وقال صلى الله عليه وسلم : " لما أصيب إخوانكم بأحد ، جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ، ترد أنهار الجنة ، وتأكل من ثمارها ، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش ، فلما وجدوا طيب مطعمهم ورأوا حسن منقلبهم ، قالوا : يا ليت إخواننا يعلمون ما أكرمنا الله به ، وما نحن فيه ، لئلا يزهدوا في الجهاد ، ولا ينكلوا عند الحرب . فقال الله : أنا أبلغهم عنكم " ، فأنزل الله تبارك وتعالى : (( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً )) . أيها الأحبة لقد عُقدت صفقة الشهادة في السماء ووقعها الشهيد بدمه فكان الفوز العظيم : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (( إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقاًّ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ )) .
 
الحمد لله ، معاشر المسلمين ، الشهيد من خير الناس منزلاً ، ومن مثل الشهيد ، يجري عليه عمله حتى يُبعث ، ودمه بريح المسك ،ويحلّى من حلية الإيمان ، وهو من أُمناء الله في خلقه ، وروحه في جوف طير خضر ترِد أنهار الجنة وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش ، يأمن من الصعقة ومن الفزع الأكبر ويُشفّع في سبعين من أقاربه ويزوج باثنتين وسبعين من الحور العين ويلبس تاج الوقار ، الياقوته فيه خير من الدنيا وما فيها . ويُرَى مَقْعَده مِنَ الجَنَّةِ ، ولعل هذا سر الابتسامة التي نراها على وجوه بعضهم بعد استشهادهم . ومع شدة ألم القتل فإن الشهيد لا يشعر بألمه ،كرامة من ربه جل وعلا ، قال صلى الله عليه وسلم "ما يَجِدُ الشَّهِيدُ مِنَ القَتْلِ إِلا كَمَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ مِنْ مَسِّ الْقَرْصَةِ" (أحمد والترمذي والنسائي وسنده حسن) . وما من مؤمن إلا ويقدم على ربه خائفا من ذنوب له سلفت ، إلا الشهيد فقد أمنه ربُه وتكفل له بالعفو : "إِنَّ لِلشَّهِيدِ عِنْدَ الله خِصَالاً أَنْ يُغْفَرَ لَهُ مِنْ أَوَّلِ دَفْعَةٍ مِنْ دَمِهِ ..." ، وفتنة القبر من أعظم ما يؤرق الخائفين ، أما الشهيد فقد اجتاز الفتنة ، قال صلى الله عليه وسلم "كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة". ولما كانت فتنة النساء من أعظم ما يضعف السير إلى الله جل وعلا ، والشهيد قد ترفع عن الدنيا وفتنها فقد أُكرم بما لا نظير له في الدنيا : "لاَ تَجِفُّ الأَرْضُ مِنْ دَمِ الشَّهِيدِ حَتَّى يَبْتَدِرَهُ زَوْجَتَاهُ، كَأَنَّهُمَا ظئْرَانِ أَضَلَّتَا فَصيلَيْهِمَا بِبَرَاحٍ مِنَ الأَرْضِ بِيدِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حُلَّةٌ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا ومَا فِيهَا" ،رواه ابن ماجه وأحمد وإسناده حسن ، فأين من منزلة الشهيد من أضاع نفسه لاهثا خلف الدنايا.
 
معاشر المسلمين ، لقد قضى الله جل وعلا أن العزة لأهل الإيمان إذا صدقوا في إيمانهم فقال سبحانه (( ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين)) ، ثم جعل للعزة طريقا هو الجهاد في سبيله ، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه (( ما ترك قوم الجهاد في سبيل الله إلا ذلوا )) ، وأخبرنا أن سبب الوهن والضعف والذل (( حب الدنيا وكراهية الموت ))، فطريق الجهاد لإعلاء كلمة الله ورفع الظلم ودفع الجبابرة هو طريق ينتهي بالعزة لا محالة ، فالمجاهد إما أن يُكرم بالشهادة ، وذلك أحب إليه ، وإما أن ينكأ العدو ويثخن فيه ويدرأ ظلمه أو يخففه .
 
وقد أدرك أرباب العزائم أن ثمن الجهاد في سبيل الله أقل كلفة من ثمن الذل والهوان ، فما دفعته الأمة في جهادها قليل إذا قورن بما تدفعه جراء الذل والمسكنة ، من الأنفس والأموال والأعراض وذهاب الأمن ، فكم دفعت الأمة من ثرواتها المنهوبة ودمائها المسفوكة وأعراضها المستباحة ، كل ذلك حين ركنت إلى الدنيا ورضيت بالهوان وأضلت طريق الشهادة ، وما أحوجنا لتذكر فضل الشهادة في سبيل الله ومنزلة الشهداء عند الله جل وعلا ، ونحن نرى مواكب الشهداء تمر بنا كل يوم ، في كثير من بلاد المسلمين ، وهذه الفضائل وأمثالها نرجوها لإخواننا الذي يجاهدون لتكون كلمة الله هي العليا والذين يقاتلون دفاعا عن دينهم وأعراضهم وأموالهم ، وكل مقتول دفاعاً عن حقه شهيد وقد جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: "فلا تعطه مالك". قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: "قاتله". قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: "فأنت شهيد". قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: "هو في النار" .
 
معاشر المسلمين ، ومن أَولى من يُرجى لهم فضل الشهادة وأجرها المجاهدون الصابرون في سوريا الذين يريدون إعلاء كلمة الله وأن يكون الحكم لله وألا يكون للفرق المارقة عن الإسلام إمرة على بلاد مسلمة لقوله تعالى (وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلًا) ، فهنيئا لهم الشهادة وهنيئا لكل من أعانهم وآزرهم ، وهنيئا لكل من جهزهم أوخلفهم في أهلهم بخير . وهنيئا لهم طريق العزة وهنيئا لهم حسن العاقبة ، فالكل راحل من هذه الدار ولكن شتان بين من يرحل عزيزاً متطهرا بالآثام هانىء البال لقيامه بواجبه ، وبين من يرحل غافلا عن الآخرة ، تائها عن دروب المكارم ، مثقلا بالأوزار .
 
 اللهم لا تحرمنا أجر الشهادة في سبيلك  لرفع راية الحق ودفع الظلم والانتصار للمظلومين ، ولا تجعلنا من المتخاذلين ولا المخذلين برحمتك يا أرحم الراحمين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين