منزلة الأسباب بين الأحكام الشرعيَّة -2-

 

والشرط لغة: العلامة اللازمة، ومنه أشراط الساعة، وفي الشرع: اسم لما يتعلق به الوجود دون الوجوب، كشرطية الطهارة لصحة الصلاة، فمن حيث لا يتعلق به الوجوب يكون علامة، ومن حيث يتعلق به الوجود يشبه العلل فسمي شرطاً، وفي بعض الأحوال يقوم الشرط مقام العلَّة. 

وينقسم الشرط إلى خمسة أقسام: 

1) شرط محض. 

2) وشرط له حكم العلل. 

3) وشرط له حكم الأسباب. 

4) وشرط اسماً لا حكماً فهو شرط مجازي. 

5) وشرط هو بمعنى العلامة المحضة. 

ولكل واحد منها فروع فقهية خاصة به، وبحثها في كتب الفقه يكون أمس بها. 

وأما العلامة فهي المعرفة لوجود الشيء دون ارتباط لها بوجوب ولا وجود، فلا فضل لها إلا الدلالة على وجود الشيء، وذلك مثل دلالة المنارة على المسجد، ودلالة الميل على الطريق، وللعلامة أقسام لا نرى الحاجة ماسَّة إلى ذكرها هنا. 

ونعود بعد ذلك إلى بسط الكلام على الأسباب فترى أنَّ الأفعال الواقعة في الوجود المقتضية لأمور تشرع لأجلها أو توضع فتقتضيها على ضربين، أحدهما خارج عن مقدور المكلف، والآخر يصح دخوله تحت مقدوره. فالأول يكون سبباً وذلك مثل كون الاضطرار سبباً في إباحة الميتة، ويكون شرطاً ككون الحول شرطاً في إيجاب الزكاة، ويكون مانعاً كجعل الحيض مانعاً من الوطء. 

وثاني الضربين ينظر إليه تارة من حيث دخوله تحت خطاب التكليف مأموراً به أو منهياً عنه أو مأذوناً، فيه كالبيع والشراء للانتفاع، والنكاح للنسل، فوجد الأمر بالبيع والنكاح فكان حكماً تكليفياً من هذه الجهة. وتارة ينظر إليه من جهة دخوله تحت خطاب الوضع فيصير سبباً، وذلك مثل كون النكاح سبباً في حصول التوارث، ويصير شرطاً مثل كون النكاح شرطاً في وقوع الطلاق، والنيَّة شرطاً في صحة العبادات، ويصير مانعاً كجعل نكاح المرأة مانعاً من نكاح عمتها وخالتها. وقد تجتمع في الأمر الواحد السببية والشرطية والمانعية، وذلك مثل الإيمان هو سبب في الثواب، وشرط في وجوب الطاعات أو صحتها، ومانع من القصاص بين المسلم والكافر. وهذا الاجتماع لا يكون في الأمر الواحد من جهة واحدة دفعاً للتناقض الناشئ من جعل الأمر الواحد متصفاً بأوصاف مُتباينة.

ومشروعية الأسباب لا تستلزم مشروعية المسبَّبات. وقد يوجد التلازم العادي بين مشروعية الأسباب ومسبباتها على معنى أنَّ الأسباب إذا تعلق بها حكم شرعي من إباحة أو ندب لا يلزم أن تتعلق تلك الأحكام بمسبباتها، فالأمر بالبيع مثلاً لا يستلزم الأمر بإباحة الانتفاع بالمبيع، فما على المكلف إلا أن يتعاطى الأسباب دون نظر إلى المسبَّبات لأنها من فعل الله تعالى لا كسب لعبد فيها، قال تعالى: [وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا] {الطَّلاق:2}، وقال عزَّ وجل: [وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ] {طه:132}، وفي الحديث: (اعقلها وتوكل).

فالمسبَّبات ليست من مقدور العبد فلا يصح التكليف بها وقد يوجد أحياناً بطريق الاتفاق لا بطريق الاستلزام إنَّ إباحة بعض الأسباب كإباحة البيع والإجارة يلزمه إباحة المسببات كإباحة الانتفاع بالمبيع، والعين المؤجَّرة، وكتحريم الربا يستلزم تحريم الانتفاع بالمبيع على هذا الوجه المنهي عنه، فما على المكلف إلا أن يَتَعاطى الأسباب غير مُلتفت إلى المسببات.

فالشارع وضع الأسباب وأمر المكلف بفعلها، وأما نتيجتها وهي المسببات فأمرها موكول إلى الشارع، وإمارة ذلك أنَّ المسببات قد لا تعقب أسبابها لحكمة يريدها الشارع يغرب علمها عن المكلف، ووضع الأسباب من الشارع يستلزم قصده إلى المسببات؛ لأنَّ الأسباب في حد ذاتها من حيث هي موجودات فقط لا تأثير لها إلا بإيداع الشارع فيها ذلك التأثير، وعلى ذلك يلزم من القصد إلى وصفها أسباباً القصد إلى ما ينشأ عنها من المسببات، إذ الأحكام الشرعيَّة شرِّعت لجلب المصالح أو درء المفاسد وجلب المصالح ودرء المفاسد مُسببات عن الأحكام.

فالذي من جانب المكلف إنما هو التسبب، وحصول المسببات من جانب الله تعالى، فما على المكلف إلا أن يصرف قصده إلى ما جعل إليه، ويكل إلى الله تعالى المسببات إذ السبب غير فاعل بنفسه، بل إنما يقع المسبَّب عنده لا به، فإذا تسبَّب المكلف فالله تعالى خالق السبب والعبد مُكتسب له [وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ] {الصَّفات:96}، [اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ] {الزُّمر:62}، [وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ] {الإنسان:30} [وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا] {الشمس:7-8}، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم كما رواه الشيخان، ولفظه: (لا عدوى ولا صفر ولا هامة، فقال أعرابي يا رسول الله: فما بال إبلي تكون في الرمل كأنها الظباء فيأتي البعير الأجرب فيدخل بينها فيجربها، قال: فمن أعدى الأول ؟)، وقول عمر رضي الله عنه في حديث الطاعون: (نفرُّ من قدر الله إلى قدر الله)، حينما قال له عمرو بن العاص (أفراراً من قدر الله!). وفي الحديث كما رواه الترمذي وصحَّحه: (جفَّ القلم بما هو كائن، فلو اجتمع الخلق على أن يعطوك شيئاً لم يكتبه الله لك لم يقدروا عليه وعلى أن يمنعوك شيئاً كتبه الله لك لم يقدروا عليه).

وتساند الأدلة في هذا الباب يُوصلنا إلى القطع، وإذا كان الأمر كذلك فالالتفات من المكلف إلى المسبب حال قيامه بفعل السبب يساوي عدم الالتفات إذ لا تأثير للالتفات أو تركه في إيجاد المسبب، إذ قد تتخلَّف العادة في تبعية المسبب للسبب؛ لأن الارتباط بينهما داخل تحت قدرة الله تعالى ولا علم لنا بما قدَّره سبحانه. 

وإذا جاز لمتعاطي السبب النظر إلى المسبب وعدم النظر إليه كان له في كل من الحالين مراتب ثلاثة، ففي حال النظر إلى المسبب عند فعل السبب حالته الأولى اعتقاد تأثير السبب في المسبب وتولد المسبب عنه فهذا شرك نعوذ بالله تعالى منه، إذ السبب غير فاعل أصلاً؛ قال تعالى: [وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ] {الصَّفات:96}، وفي الحديث الذي رواه الستة ماعدا الترمذي، (أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر؛ فأما من قال مُطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب، ومن قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب).

والحالة الثانية: الدخول في السبب مع اعتقاد أن المسبب يكون عنده لا به مع اعتقاد تأثير الله تعالى في إيجاد المسبب عند وجود السبب.

والحالة الثالثة: الدخول في السبب على أنَّ المسبب من الله تعالى بدون التفات للسبب أصلاً، فالأسباب مع المسببات داخلة في قدرة الله تعالى، فالله سبحانه هو المسبِّب لا هي إذ ليس له شريك في ملك فلا التفات للتسبُّب أصلاً في هذه الحالة. وهذه المرتبة والتي قبلها لا تنافيان العقيدة الصحيحة. 

وفي حالة ترك الالتفات إلى المسبب له ثلاث مراتب: 

أولاها: الدخول في السبب من حيث هو ابتلاء للعباد وامتحان لهم لينظر كيف يعملون، وهذا النظر والتوجه مبني على أنَّ الأسباب والمسببات موضوعة في هذه الدار ابتلاء للعباد وامتحاناً لهم توصيلاً إلى سعادة بعضهم وشقاء البعض، والابتلاء من الله تعالى تارة يكون للعقول من حيث تكليفها النظر إلى العالم كله ليستدل به المكلف على وجود الصانع سبحانه، وتارة يكون للنفوس بتسخير الكائنات لها لتصل إلى ما ينفعها وتجتنب ما يضرها، فإن الله تعالى غني عن العالمين ومنزه عن الافتقار إلى غيره، ولكن وضع هذه الأسباب والمسببات ابتلاء لعباده، قال تعالى: [وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا] {هود:7}، وقال: [إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا] {الكهف:7}، وقال: [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا] {آل عمران:140} إلى قوله تعالى:[ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ] {آل عمران:142}.وغير ذلك من الآيات الكثيرة الدالة على ابتلاء الله تعالى لعباده بواسطة تلك الأسباب.

فالمكلف في هذه الحالة مُتعبِّد لله تعالى على وجه صحيح مأمور به من جهة الشارع. وثانيتها: الدخول في الأسباب مُتجرداً عن القصد إليها وغير معير للأسباب بالاً لأنها أمور محدثة، وهو في هذه المنزلة قد عزبت عنه المسببات تماماً فقد أفرد المعبود بالعبادة غير مشرك معه أحداً، معتقد أنَّ التشريك خروج عن خالص التوحيد بالعبادة؛ لأنَّه ركون إلى المحدثات وركون إلى الأغيار، وهذا مُنتهى نفي الشركة، وهذا اعتقاد صحيح يشهد له من القرآن الكريم قوله تعالى: [فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا] {الكهف:110}، وقوله تعالى: [فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلَا للهِ الدِّينُ الخَالِصُ] {الزُّمر:2-3}، فصاحب هذه المرتبة متعبِّد لله تعالى بالأسباب الموضوعة على اطراح النظر فيها من جهته فضلاً عن أن ينظر إلى مسبباتها. 

وثالثة المراتب: الدخول في السبب وفقاً للإذن الشرعي مع التجرد عن النظر فيما عدا ذلك، فالتوجه إلى السبب تلبية للأمر لتحقق صاحب تلك المرتبة بمقام العبودية إذ أذن الشارع للمكلف في تعاطي السبب أو أمره به دليل على قصد الابتلاء والتمحيص ليتميز المصلح من المفسد والخبيث من الطيب، وترك تعاطي الأسباب في بعض الحالات يكون مذموماً بل محرماً لأنَّه إلقاء باليد إلى التهلكة. 

وفرَّع الفقهاء على ذلك مسائل كثيرة، فقد قالوا: إنَّ المضطر إذا خاف الهَلَكة وجب عليه السؤال أو الاستقراض أو أكل الميتة ولا يجوز أن يترك نفسه حتى يموت. 

وقالوا: إنَّ الغازي إذا حمل وحده على جيش الكفار فهم يفرقون بين أن يغلب على ظنه السلامة أو الهلكة أو يقطع بإحداهما، فالذي اعتقد السلامة جائز له ما فعل، والذي اعتقد الهلكة يمنع من ذلك، ويستدلون بقوله تعالى: [وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ] {البقرة:195}. 

وقالوا: من دخل المفازة بزاد أو بغير زاد إذا غلب على ظنه السلامة فيها جاز له الإقدام، وإن غلب على ظنَّه الهلكة لم يجز. 

وكذلك إذا غلب على ظنه الوصول إلى الماء في الوقت أمر بالتأخير ولا يتيمم، إلى غير ذلك من المسائل المبنية على غلبات الظنون. 

وقد حكي عن مسروق أنه قال: (من اضطرَّ إلى شيء مما حرم الله عليه فلم يأكل ولم يشرب حتى مات دخل النار). 

والمسلك الصحيح في مثل هذا ألا يترك الإنسان تعاطي الأسباب المشروعة لأن ذلك يعد تواكلا منهياً عنه، وإنما عليه أن يأخذ في الأسباب المشروعة التي سنَّها الله تعالى لعباده، ثم يتوكل على الله تعالى بعد ذلك، قال تعالى [فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ] {آل عمران:159}. وقال عليه الصلاة والسلام: (اعقلها وتوكل). 

فالحقيقة أن المسبب لا تأثير فيه من جهة فاعل السبب حتى لو قصده والتفت إليه فالأفعال الناشئة المتسببة عن كسب العبد تنسب إليه وان لم تكن هذه المسببات من كسبه. 

ودليل ذلك من الشرع قول الله تعالى: [مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا] {المائدة:32}، فنسب سبحانه وتعالى الإحياء والإماتة إلى العبد وهما من فعل الله تعالى؛ لأنَّ العبد فعل السبب وهو القتل المفضي إلى الموت. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من نفس تقتل ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كِفْلٌ منها لأنَّه أول من سَنَّ القتل). 

فالداخل في السبب إنما يدخل فيه مقتضياً لمسبِّبه إذ أن الله تعالى ما أمر بفعل الأسباب، إلا لجلب مصلحة يقتضيها الفعل، وما نهى عنها إلا لدرء مفسدة يقتضيها الفعل، فإذا أقدم المكلَّف على الفعل لزم ذلك الإقدام المصلحة المقصودة للشارع سواء علمها المكلف أو لم يعلمها، إذ من المقطوع به أن أوامر الشارع ونواهيه إنما جاءت لجلب المصالح ودرء المفاسد. 

والمكلف ملتزم لجميع ما ينتجه ذلك السبب من المصالح أو المفاسد وإن لم يقف عليها، فالثواب والعقاب يترتَّبان على أفعال المكلَّف لأنَّ الشارع أناط الثواب والعقاب بفعله وميَّز بين ما يعظم من الأفعال لعظم مصلحته فجعله ركناً، وبين ما يقبح من الأفعال قبحاً فاحشاً فجعله كبيرة لعِظَم مفسدته، وبين ما دون ذلك فسمَّاه في المصالح إحساناً، وفي المفاسد صغيرة، واتضح بكل ذلك ما هو من الأفعال الأساسية في الدين المسمى بالأركان، كما بين كبائر الذنوب وصغائرها، فما عظَّمه الشارع من المأمورات فهو من أصول الدين وما دون ذلك فهومن فروعه وتكميلاته، وما عظَّمه في المنهيات فهو من الكبائر وما كان دون ذلك فهومن الصغائر ناظراً في كل ذلك إلى مقدار المصلحة.

فإذا تعاطى المكلَّف السبب مستوفياً لشرائطه منتفية عنه الموانع لزمه حكم المسبب وإن لم يكن من فعله، فلو فعل السبب قاصداً لا يقع مسببه فقد قصد مُحالاً وتكلَّف رفع ما ليس له رفعه، ومنع ما لا يجعل له منعه، فمن عقد نكاحاً على وجهه الشرعي أو بيعاً أو شيئاً من العقود ثم قصد أن لا يستبيح بذلك العقد ما عقد عليه فقد وقع قصده عبثاً ووقع المسبب الذي أوقع سببه بدون استطاعة منه لتعطيل حكم المسبب.

ومثل ذلك إذا أوقع طلاقاً أو عتقاً على الوجه المشروع ثم قصد عدم ترتيب آثار الطلاق أو العتاق بطل قصده، ومن صلى أو صام أو حجَّ على الوجه المشروع ثم قصد في نفسه أن ما وقع من العبادة لا يصح له أو لا ينعقد قربة كان قصده لغواً؛ لأن في قصده تغييراً لما حكم الله تعالى به، وليس أمر الحكم موكولاً إليه بل إلى الله تعالى.

وقد جاء في القرآن الكريم، ما يُوضِّح ذلك، قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا] {المائدة:87} فتحريم ما أحل الله تعالى اعتداء على ما حكم.

وقال عليه الصلاة والسلام: (من اشترط شرطاً ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط)، فهذا دليل على أنَّ ما جعله الله تعالى مسبباً عن شيء فقصد العبد رفع هذا المسبب لغو.

 أما لو فقد السبب شرائطه المعتبرة شرعاً أو وجدت في طريقه موانع فلا يلزم أن ينتج مسببه، فلا يكون المكلف مُلزماً بذلك المسبب، فالسبب المعتبر شرعاً لا يستطيع المكلف أن يغيِّره لأنَّ وضعه لفائدة يعلمها الشارع، ولزوم مسببه له لفائدة يعلمها الشارع أيضاً، ولا دخل للعبد في تغيير سبب أو مسبب فليس مكلفاً إلا بفعل السبب حال كونه عالماً بأن المسبب ليس إليه، فإذا وكله إلى فاعله وصرف نظره عنه كان أقرب إلى الإخلاص والتفويض والتوكل على الله تعالى، فتنبيه المكلف للأمر والنهي في السبب من غير نظر إلى ما دونهما قائم بحقوق ربه واقف موقف العبودية. 

وحيث قد تبين مما تقدم أنَّ الأسباب ضربان؛ ضرب منها ممنوع وهو الذي يجرُّ إلى المفاسد، وضرب منها مطلوب وهو الذي يؤدي إلى المصالح، وقد ينشأ عن الأسباب الممنوعة مصالح كما أنه قد ينشأ عن الأسباب المطلوبة مفاسد، وهذا في الحقيقة ونفس الأمر، وعند التحقيق يظهر أنَّ السبب الممنوع لا ينشأ منه لذاته مصلحة، وأن السبب المطلوب لا ينشأ منه لذاته مفسدة، إذ إن الشارع لا يقصد مطلقاً من السبب الممنوع مصلحة، ولا من السبب المطلوب مفسدة. 

وغاية الأمر أنَّ ترتب المفسدة على السبب المطلوب لم تأتِ منه، كما أن ترتب المصلحة على السبب الممنوع لم تأت منه، وإنما أتت من أسباب أخرى نشأت عن السبب المطلوب والسبب الممنوع.

وذلك الأمر يتضح بضرب أمثلة توضحه وتُبيِّنه، فمثال ذلك من الأسباب المأمور بها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنه أمر مشروع؛ لأنَّه سبب لإقامة الدين، وإظهار شعائر الإسلام وإخماد الباطل على أي وجه كان. وقد ينشأ عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إتلاف مال أو نفس؛ والجهاد مشروع لإعلاء كلمة الله تعالى وقد ينشأ عنه مفسدة في المال أو النفس.

ومثال وجود مصلحة مترتِّبة على الأسباب الممنوعة الأنكحة الفاسدة فإنها ممنوعة، وقد تنشأ عنها مصالح كثبوت النسب والميراث وغير ذلك من الأحكام التي هي مصالح ناشئة عن سبب ممنوع وهو النكاح الفاسد. 

فلا يتأتى مُطلقاً القول بأنَّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قصد به الشارع إتلاف نفس أو مال، وإنما هو أمر يتبع السبب المشروع وهو إظهار الحق وإزهاق الباطل، ولا يتأتى مطلقاً القول بأنَّ الشارع قصد من الجهاد إتلاف النفس، إذ من المعلوم أنَّ الجهاد لإعلاء كلمة الله سبحانه.

وبذلك تسلم القاعدة المتفق عليها، وهي أنَّ الأسباب المشروعة لا تكون بذاتها أسباباً للمفاسد مطلقاً، والأسباب الممنوعة لا تكون بذاتها أسباباً للمصالح. وقد يطرأ عليها لأمور أخرى ما يجعل الأسباب الممنوعة سبباً للمصالح والأسباب المشروعة سبباً للمفاسد.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

الحلقة السابقة هــــنا

المصدر: (مجلة منبر الإسلام، السُّنَّة الثامنة، رجب 1371 - العدد 7).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين