منزلة الأسباب بين الأحكام الشرعيَّة -1-

 

تنقسم الأحكام الشرعيَّة العمليَّة إلى تكليفيَّة ووضعيَّة، فالتكليفيَّة هي الفرض والحرام والواجب والمكروه والمباح، وانقسامها تابع المقتضى الأمر والنهي، اقتضاءً جازماً أو غير جازم. 

والوضعيَّة هي الأسباب، والشروط، والموانع، والرخصة، والعزيمة، والصحة، والفساد، وقد خصصت هذا المقال بمعالجة الأسباب الشرعيَّة وبيان منزلتها بين الأحكام الشرعيَّة الوضعيَّة. 

والسبب في اللغة عبارة عما يمكن التوصل به إلى مقصود ما، ويُذكر ويراد به الطريق، قال تعالى: [إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا فَأَتْبَعَ سَبَبًا] {الكهف:84-85}، أي: طريقاً. ويذكر ويراد به الباب، قال تعالى: [لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ] {غافر:36-37}، يريد به أبوابها. ومنه قول زهير: (ولو نالَ أسبابَ السماء بِسُلَّمِ). ويذكر ويراد به الحبل، قال تعالى: [فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ] {الحج:15}، أي: بحبل. 

وإطلاقه في اصطلاح المتشرعين على بعض مسمياته في اللغة إذ عرَّفه الآمدي بأنه كل وصف ظاهر منضبط دلَّ الدليل السمعي على كونه معرِّفاً لحكم شرعي، وهو ينقسم إلى ما لا يستلزم في تعريفه للحكم حكمة باعثة عليه؛ كجعل زوال الشمس أمارة معرفة لوجوب الصلاة في قوله تعالى [أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ] {الإسراء:78}، وفي قوله عليه السلام: (إذا زالت الشمس فصلوا)، وكجعل طلوع هلال رمضان أمارة على وجوب صوم رمضان بقوله تعالى: [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] {البقرة:185}، وقوله عليه السلام: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته). 

وإلى ما يَستلزم حكمة باعثة للشارع على شرع الحكم المسبِّب كالشدَّة المطربة المعرفة لتحريم شرب النبيذ لا لتحريم شرب الخمر في الأصل المقيس عليه، فإنَّ تحريم شرب الخمر معروف بالنص أو الإجماع لا بالشدة المطربة، وعلى هذا فالحكم الشرعي ليس هو نفس الوصف المحكوم عليه بالسببية بل حكم الشرع عليه بالسببية. 

وعلى ذلك نعلم أنَّ كل واقعة عرف الحكم فيها بالسبب لا بدليل آخر من الأدلة السمعية فلله تعالى فيها حكمان: أحدهما: الحكم المعرف بالسبب، والآخر: السببية المحكوم بها على الوصف المعرف للحكم. 

والحكم قد يتكرَّر تبعاً لتكرار سببه كزوال الشمس لوجوب الصلاة، وطلوع الهلال لوجوب الصوم، وكل سبب من أسباب الضمانات والعقوبات والمعاملات يتكرر الحكم تبعاً لتكرر السبب، وقد يكون السبب غير متكرر، كالاستطاعة في الحج، وقد يطلق على السبب تجوزاً أنَّه موجب للحكم، وليس معنى ذلك إيجابه للحكم بذاته، وإلا كان موجباً للحكم قبل ورود الشرع، وإنما معناه أنَّه معرف للحكم لا غير عملاً بحقيقة السبب. 

ويقرب تعريف الآمدي من تعريف بعضهم للسبب بأنَّه: هو جعل وصف ظاهر منضبط مناطاً لوجود حكم. أي: يستلزم وجوده، وذلك أنَّ لله سبحانه في الزاني مثلاً حكمين. أحدهما تكليفي، وهو وجوب الحد عليه، والثاني وضعي، وهو جعل الزنا سبباً لوجوب الحد؛ لأنَّ الزنا لا يوجب الحد بعينه وذاته، بل بجعل الشرع. 

وينقسم السبب بالاستقراء إلى الوقتية: كزوال الشمس لوجوب الصلاة، وإلى المعنوية: كالإسكار للتحريم، وكالمعصية للعقوبة، ولما كان السبب يشتبه أحياناً بالعلَّة والشرط والعلامة، وجب أن نذكر بعد تعريف السبب تعريف العلَّة، والشرط والعلامة. 

فالعلَّة في اللغة: عبارة عن المغير، ومنه سمي المرض علة والمريض عليلاً، فكل وصف حلَّ بمحل، فصار به المحل مَعْلولا، وتغير حاله فهو عِلَّة كالجرح بالمجروح، وفي الشرع عبارة عن الوصف الذي يُضاف إليه وجوب الحكم ابتداء، والعِلَل الشرعيَّة غير مُوجبة للأحكام بذواتها، وإنما الموجب هو الله تعالى. 

وتحقيق المذاهب في العلَّة الشرعيَّة يجر بنا القول فيه إلى بيان وجهة نظر كل تعريف من تعاريفها ليتضح موضع الخلاف والوفاق بين التعاريف المختلفة للعلة الشرعيَّة، والمشهور من تعاريفها أربعة تعاريف: 

الأول للجمهور وهو: أنَّها الوصف المعرف للحكم، فالوصف يشمل الشرط والممانع والأمارة، وتقييد الوصف بجعله معرفاً للحكم يخرج شرط الوجوب كالبلوغ بالنسبة لسائر العبادات، وشرط الصحة كالطهارة بالنسبة للصلاة. ويخرج المانع لأنَّه معرف لنقيض الحكم كالحيض، فإنَّه مُعرِّف لعدم وجوب الصلاة، ويخرج الأمارة لأن الحكم لا يضاف إليها كالأذان فإنه لا يضاف الحكم إليه، ولا تأثير له في وجوب الصلاة، فإنَّ الأذان لا يدل على شيء، إلا مجرد الإعلام بالصلاة التي وجبت بشيء آخر، و?و دخول الوقت، فالفرق بين الأمارة والعلَّة هو إضافة الحكم للعلة دون الأمارة. فالعلَّة هي ما تستلزم شيئاً يتبعها في الوجود بحيث يكون وجود المعلول تابعاً لوجودها مُتأخراً وجوده عنها، والإمارة هي التي يتبعها العلم بوجود الشيء لا وجوده كالدخان، فإنه أمارة على وجود النار، فيتبعه العلم بوجودها لا وجودها، فالأمارة في الواقع ونفس الأمر هي العلَّة الذهنية، وما يطلقون عليه لفظ العلَّة في الواقع ونفس الأمر هو العلَّة الخارجية، والفرق بينهما أنَّ العلَّة يتبعها وجود الشيء في الخارج فلا يكون وجوده سابقاً على وجودها، والأمارة يتبعها العلم بوجوده وإن سبق وجوده على وجود الأمارة. 

وإذ قد ارتضى الجمهور تعريف العلَّة على هذا الوجه نشأ من التعريف مُعارضة لما قالوه في تعريف الحكم الشرعي من أنَّه خطاب الله تعالى المتعلِّق بفعل المكلَّف، فخطاب الله تعالى ليس تابعاً في الوجود لهذه الأوصاف فالتزموا أن يقولوا: إن هذه الأوصاف ليست عللاً حقيقية، وإنما هي أمارات عليه. أي: على تعلقه. 

ولذلك عرفوها بالمعرف للحكم على معنى أنَّ الحكم يضاف إليها لفظاً فيقال: وجب الحد للزنا. ووجبت الصلاة لدخول الوقت. 

وقد اختلف في الحكم المعرِّف بالعلَّة هل هو حكم الأصل أو حكم الفرع؟ فالحنفيَّة قالوا إنَّ المعرف بالعلَّة هو حكم الفرع لأنَّ حكم الأصل معرف بالدليل. 

وقالت الشافعيَّة: إنَّ المعرف بالعلَّة هو حكم الأصل لكن لا من حيث ذاته بل من حيث تعديه إلى الفرع، وفي الحقيقة لا خلاف بينهم؛ لأنَّ حكم الأصل من حيث تعديه إلى الفرع هو حكم الفرع؛ لأنَّ الحكم واحد يضاف إلى الأصل وإلى الفرع، وتعريفه بالعلَّة إنما هو من حيث إضافته إلى الفرع بلا نزاع.

وثاني تعريفات العلَّة: هو تعريف الغزالي لها بأنَّها المؤثر في الحكم بجعل الله تعالى. 

ولا يقصد الغزالي بالتأثير في تعريفه التوليد لأنَّه من أهل السُّنَّة المعترفين بأنَّ جميع الآثار مُستندة في وجودها إلى الله تعالى وليس بعضها ناشئاً عن بعض بطريق التوليد. واستلزم تعريف الغزالي القول بأنَّ العِلَل مؤثرة في الأحكام، وأن وجود الأحكام تابع لها، ويتصادم ذلك مع القول بأنَّ الأحكام الشرعيَّة خطابات الله تعالى المتعلِّقة بأفعال المكلفين، وخطاب الله تعالى أزلي موجود في حال عدم وجود العلل. 

والحق عدم ورود هذا الإشكال لأنَّ للحكم الشرعي إطلاقين: إطلاقه على الخطاب المتنوع إلى إيجاب وتحريم، وإطلاقه على أثر الخطاب المتنوِّع إلى وجوب وحرمة. 

وبالإطلاق الثاني يكون حادثاً لأنَّ الوجوب والحرمة من صفات أفعال المكلفين فمعنى الوجوب جعل الفعل مطلوباً طلباً جازماً. وهذا المعنى هو المراد للغزالي من تعريفه، والحكم في تلك الحالة لا يمتنع أن يكون تابعاً للعِلَل في الوجود إذ فعل المكلف لا يتصف بالوجوب إلا عند تحقق علته، فعقوبة الحد مثلاً لا تتصف بالوجوب إلا عند تحقق عِلَّتها وهي التعدي على حدود الله سبحانه. 

فالغزالي يرى في العلَّة أنها مُستلزمة للحكم والحكم غير متولد عنها، وبذلك يخالف من قال بعدم الاستلزام وهم الجهور، ومخالف للمعتزلة القائلين بأنَّ العلَّة يتولَّد عنها الحكم. 

وعند الفحص الدقيق يظهر أنَّ الخلاف بينه وبين الجهور لفظي؛ لأنَّ كلاًّ منهما نظر إلى غير ما نظر إليه الآخر؛ لأنَّ الغزالي قصد بالحكم الوجوب والحرمة وهما تابعان في الوجود للعلل. والجمهور قصدوا بالحكم الإيجاب والتحريم وهما من أقسام الخطاب فلم يقولوا بالاستلزام. وفي الوقت ذاته لا يمنعون أنَّ الوجوب تابع في الوجود لعلته، كما أن الغزالي لا يخالف في أنَّ الخطاب ليس تابعا في الوجود للعلل. 

وخلافه مع المعتزلة حقيقي؛ لأنَّه قَيَّد التأثير بجعل الله تعالى، وإن استلزام العلَّة للحكم تابع لهذا الجعل، وليس استلزاماً ذاتياً إذ لو نظر إلى العلَّة في ذاتها لما كانت مُستلزمة للحكم فلا حكم قبل إرسال الرسل. 

ويوضح جعل الخلاف بين الغزالي والجمهور لفظياً أنَّ الوجوب والإيجاب حقيقتهما واحدة ويختلفان بالاعتبار، فالخطاب من حيث صدوره من الحاكم يقال له إيجاب وتحريم، ومن حيث تعلقه بفعل المكلف يقال له وجوب وحرمة، وعلى هذا يكون اللازم للعِلَل الشرعيَّة الوجوب والحرمة من حيث تعلقه لا من حيث ذاته.

وثالث تعريفاتها: تعريف المعتزلة وهي أنَّها المؤثِّر في الحكم بذاته، وذلك ناشئ من قولهم إنَّ المعلولات حاصلة بطريق التوليد من العِلَل دون احتياج إلى فاعل نظير ذلك، قولهم إن مماسة النار يتولَّد عنها الإحراق دون تأثير فاعل في ذلك الإحراق ولا توسط شيء. وتولد الشبع عند تناول الطعام ونحو ذلك من المعلولات الناشئة من عللها. غاية الأمر أنَّ القوى التي هي موجودة في العِلَل والأسباب. 

وبذلك خالف المعتزلة الفلاسفة القائلين أنَّ العلَّة ينشأ عنها معلولها من ذاتها دون نظر إلى فعل الله تعالى في العِلل، وقول المعتزلة جارٍ في أفعال العباد؛ فهم يقولون: إنَّ العبد يخلق أفعال نفسه الاختياريَّة بقدرة أودعها الله تعالى فيه، فسموا تأثير العبد في الأفعال من تلك الجهة خلقاً لأن له علماً وإرادة، وسموا تأثير العِلل من تلك الجهة أيضاً توليداً. 

فقول المعتزلة في تعريف العلَّة: أنها المؤثر في الحكم بذاته لا ينافي قولهم: أنَّ التأثير بقوة أودعها الله تعالى فيها، وليس تأثير العلَّة من ذاتها وطبعها كما قالت الفلاسفة. 

وتفرَّع عن ذلك قول المعتزلة إنَّ الأحكام الشرعيَّة حاصلة بطريق التوليد عن العلل بدون احتياج إلى رسول يبلغها، فهم يقولون: أنَّ القتل العمد العدوان تولَّد عنه وجود القصاص لما احتواه من المفسدة دون وجود نفي من الشارع، وإنَّ الإسكار تولَّد عنه التحريم لما احتواه من المفسدة، فلزم المعتزلة القول بأنَّ العقل حاكم، فالتزموه على معنى أنَّ العقل يدرك أحكام الله تعالى الأزليَّة قبل ورود الشرع، وليس العقل مُنشئاً لها. 

فانحصر الخلاف بين أهل السُّنَّة وبين المعتزلة في دائرة مُعيَّنة وهي: أنَّ العقل يستقل بإدراك أحكام الله تعالى التي حكم بها في علمه الأزلي، وإن لم يرد شرع؛ لأنَّ الأفعال مُشتملة على مصالح ومفاسد يمكن الاهتداء بها إلى إدراك الأحكام، فإن حوى الفعل مصلحة في القيام به ومفسدة في تركه كان واجباً. وإن حوى مفسدة في فعله ومصلحة في تركه كان محرماً، وإن كان في فعله مصلحة ولا مفسدة في تركه كان مندوباً، وإن كان في تركه مصلحة ولا مفسدة في فعله كان مكروهاً، وإن لم يكن في فعله ولافي تركه مصلحة ولا مفسدة كان مباحاً. 

فهذه أحكام خمسة شرعية عقلية فنسبتها إلى الشرع ناشئة من أنَّ الشارع حكم بها، ونسبتها إلى العقل من جهة أنَّ العقل أدركها بدون نص من الشارع، بل بما أودع في الأفعال من مصلحة أو مفسدة في الفعل أو الترك. 

ألا ترى أنَّ المعتزلة أثبتوا الأحكام والتكاليف قبل ورود الشرع، وفسَّروا قوله تعالى: [وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا] {الإسراء:15}، بأن جعلوا الرسول هو العقل، وبذلك يرتفع عن مذهب المعتزلة ما فهمه بعضهم، وهو خاطئ أنَّ المعتزلة يقولون إنَّ الأحكام ناشئة عن العِلَل بطريق التوليد دون فعل من الله تعالى كما قالت الفلاسفة.

وأما أهل السُّنَّة فمذهبهم أنَّ العقل لا يدرك الأحكام استقلالاً بل إنَّما يدركها من النصوص الشرعيَّة التي تجيء بها الرسل ففهموا أنَّ الرسول في الآية هو من اصطفاه الله تعالى لتبليغ رسالته فنفوا الأحكام والتكاليف قبل ورود الشرع، فعند المعتزلة يثيب الله تعالى الطائعين ويعاقب العاصين قبل بعثة الرسول اكتفاءً بما أودع في الأفعال من المصالح والمفاسد وبما كرَّم الله تعالى به الإنسان من العقل المدرك لها. 

وجملة القول في هذا الموضوع أنَّ الخلاف بين أهل السُّنَّة والمعتزلة حقيقي ناشئ في الأصل من الخلاف في قاعدة التحسين والتقبيح العقليين. 

والتعريف الرابع من التعريفات المشهورة للعلَّة هو تعريف الآمدي لها: بأنَّها الباعث على الحكم. أي: الوصف الباعث للشارع على إصدار الحكم. 

وإذا نظرنا إلى الباعث نرى أنَّ حقيقة الأمر الذي يبعث الفاعل ويحمله على الفعل ويكون غرضاً له، وذلك تارةً يكون العلَّة الموجبة للفعل فيكون متقدماً عليه وجوداً وتعقلاً؛ نحو: قعدت عن الحرب جُبْناً. وضربتُ العبد لإهماله وسوء خلقه. وتارة يكون علة غائية للفعل فيكون مُتأخراً عنه وجوداً، مُتقدِّماً في التعقل؛ نحو: ضربت العبد للتأديب ولإصلاح حاله. 

وبذلك نتحصَّل على أنَّ للفعل عِلَّة موجبة وعلة غائية، وهما مختلفتان بالذات، إذ العلَّة الموجبة طبيعتها ترتب الفعل عليها، والعلَّة الغائية طبيعتها ترتبها على الفعل، وقد حمل ذلك المعنى على تسميتها بالغاية حيث كان وجودها مُتحققا في نهاية الفعل، كما سميت ثمرة وفائدة لهذا المعنى.

ونظراً لما يشتم من لفظ الباعث وما يدل عليه من التأثير بالنسبة لله تعالى شنَّع العلماء على الآمدي في هذا التعريف، وقد أوجد السبكي مخلصاً يرد هذه التشنيعات، وذلك بأن قال لعلَّ الآمدي أراد بالباعث الأمر الذي يبعث المكلف على الامتثال، ولم يرد بالباعث العلَّة الموجبة للحكم وهي الباعث للشارع على تشريع الحكم، فالمراد بالباعث على هذا المنفعة والمصلحة العائدة على العبد المترتبة على تشريع الحكم. وإطلاق الباعث عليها بالنسبة للمكلف إطلاق حقيقي، وذلك لأنَّ المنفعة تحمل المكلف على الامتثال. 

فالحاصل أنَّ الآمدي أراد بالعلَّة الغاية والحكمة المترتبة على تشريع الحكم، والجمهور ومنهم الغزالي أرادوا بها ما يكون موجباً للحكم وذلك بالنسبة لتعريف الغزالي، أو معرفاً للحكم بالنسبة لتعريف الجمهور. 

وكلا الإطلاقين إطلاق الآمدي، وإطلاق الجهور والغزالي صحيح؛ لأنَّ الفعل يُعلَّل بكل منهما ألا ترى أنه يقال وجب الحد للزنا، ووجب القصاص للقتل، ويقال وجب الحد صوناً للأعراض عن الدنس وحفظاً للأنفس والأموال، فمن التعليل بالحكمة والمصلحة قول الله تعالى: [وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ] {الذاريات:56}، ومن التعليل بالموجب قوله تعالى: [فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ] {النساء:160}.

وبذلك التوجيه الذي وجَّهه السبكي لبيان الباعث المراد للآمدي يظهر أنَّ الخلاف بينه وبين الجهور لفظي؛ لأنَّ للحكم أسباباً يترتب هو عليها، وفيه منافع ومصالح للعباد تترتب عليه. وهذه المصالح والمنافع، يعبر عنها بحكمة المشروعية. 

فالجمهور نظروا إلى أسباب التشريع والآمدي نظر إلى حكم التشريع، فكل ما هنالك من اعتراض على تعريف الآمدي إنما قصد به وجوب ترك الألفاظ الموهمة لجعل الشارع، ملزماً بمراعاة المصالح في أفعاله، فليس أحد يستطيع إنكار ترتب المصالح على الأحكام، كما إنه ليس أحد يستطيع إنكار ترتب الأحكام على الأسباب، وغاية الأمر أنَّ هذا الترتيب بجعل الله تعالى ولو شاء لما خلق السبب ولا المسبَّب، ولوشاء خلق المسبَّب وحده بدون سبب، والعبارة المشتهرة بين القوم من أنَّ أفعال الله تعالى لا تُعلَّل، معناها في الحقيقة ونفس الأمر لا تُعلَّل بالأغراض والدواعي، على معنى أنَّ الله تعالى لا يحمله على الفعل غرض، ولا يدعوه إليه داعٍ، ولا يبعثه عليه باعث.

فالمعنى الحقيقي للباعث مُنتفٍ في جانب الله تعالى عند الجميع فالله تعالى يشرع الأحكام بمحض إرادته واختياره، وجريان بعض الأفعال على طريق التسبب إنما هو من قبيل ما جرت عليه العادة الإلهيَّة بخلق المسبَّبات عند وجود الأسباب، وليس أحد يستطيع إنكار الأسباب ومسبباتها على هذا الوجه الذي بسطناه. 

وكيف يستطيع أحد أن يدَّعي إنكار تعليل أفعال الله تعالى على هذا الوجه، والله تعالى يقول: [وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ] {الذاريات:56}. وقد أرسل الله تعالى الرسل لهداية الخلق وأيَّدهم بالمعجزات إذ يقول جلَّ شأنه: [رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ] {النساء:165}. 

وقال سبحانه [فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالبَاطِلِ] {النساء:160-161}، أرشد الله تعالى في هذه الآيات إلى أنَّ هذه الاعتداءات منهم كانت سبباً في تحريم الطيِّبات عليهم، فيقول عز وجل: [وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ] {النحل:112}، ذكر الله تعالى أنَّ كفران النعمة كان سبباً للنقمة، كما أنَّ شكرها سبب في الازدياد، قال تعالى: [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ] {إبراهيم:7} فالله تعالى لم يخلق الخلق ويتركهم سدى بل أرشدهم لما فيه سعادتهم وأعانهم على ذلك بالعقل، وأرسل إليهم الرسل مؤيدين بالمعجزات وأنزل عليهم الشرائع هادية لما فيه مصالحهم وتدبير أمورهم. 

وإلى هنا قد انتهى القول في شرح معنى العلَّة، وقد كنا مُضطرين إلى الإسهاب مع بيانها لإزالة الشبه التي كانت تَعْرض لبعض التعاريف بما يجعلها مُناقضة لقواعد أهل السُّنَّة من ناحية، والتباسها لقواعد المعتزلة من ناحية أخرى كما يعرض الاشتباه لقواعد المعتزلة والتباسها بقواعد الفلاسفة. 

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

[التتمة في الجزء الثاني للمقالة، ويبدأ بتعريف الشرط وأقسامه]

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين