منتبه في قطار النائمين

عجلات القطار تدور في حركة دائرية متشابهة على قضبان ممتدة في أفق يبدو بلا نهاية، ومع حركة الدوران يتكرر الصوت نفسه المزعج ذو النغمة المكررة الرتيبة، ومع تكرار الدوران، وتكرار النغمة الرتيبة، تسري عدوى النعاس بين ركاب القطار الجالسين على مقاعدهم.

النغمة الرتيبة والحركة الثابتة المكررة تستدعي النعاس، وتصيب العقل بالكسل، والجسم بالخدر والسكون.

صوت قاطع التذاكر (الكمسري) يقطع السكون بتكرار كلمة واحدة: تذاكر.. تذاكر..، صوته المكرر وعمله الرتيب هو جزء من مشهد الرتابة داخل القطار، يسير في مسار محدد ضيق بين صفي المقاعد، دفتر التذاكر في يده، وفي الأخرى قلم للتأشير على التذاكر، وخلف أذنه قلم احتياطي لتكملة الدور نفسه إذا فرغ حبر القلم في يده، يكرر مع كل راكب نفس الحركة، يقتطع تذكرة من دفتر التذاكر ثم يؤشر عليها بالقلم، يتغير الركاب وحركته ثابتة ذهابا وإيابا بين صفي المقاعد بحركة آلية، تتبدل الأيام وهو يقوم بالعمل نفسه كل يوم، التكرار والملل أصابا عقله بالخدر وفكره للاستسلام للحركة الرتيبة، يومه كأمسه، وغده كيومه، مبلغ آماله وأقصى طموحه أن يترقى إلى مفتش، ليحصل على حرية التنقل من قطار إلى قطار.!

سائق القطار يستكمل المشهد الرتيب داخل القطار؛ فهو محبوس في غرفة محدودة الأبعاد، وعلى نفس قضبان الأمس يسير اليوم وسيسير غدا، المشهد نفسه الذي تتركز فيه عيناه هو هو لا يتغير، تمر المناظر سريعا كأنها طيف في منام، وحتى لو شَغَلَ نفسه بِعدِّ أعمدة الإنارة أو أشجار الطريق، فسيدخل في دائرة التكرار اللانهائية العبثية.

فكرة "القطار والكمسري والسائق" فكرة التكرار الممل لحركة الإنسان الرتيبة في الحياة، فكرة العمر الذي يمر كالقطار والإنسان الساكن داخله، فكرة تشغلني منذ صباي.

كنت أشفق على قاطع التذاكر في المواصلات، وأنا أتخيل حركته الرتيبة في حلقة التكرار اليومي المفرغة، كنت أشفق على الجالسين على المقاهي العتيقة التي أسير أمامها كل يوم وأنا أرقب الوجوه نفسها الجالسة على المقاعد نفسها وبالعيون ذاتها الساهمة الناعسة الناظرة إلى لا شيء.

ومع شفقتي على هؤلاء تملكني الخوف والفزع من أن ألقى في الحياة المصير ذاته، وأن أسير في المسير ذاته؛ أن أكون ميتا على قيد الحياة، أن أكون ساكنا وقطار الحياة يسير، دائرا في حركة عبثية رتيبة بلا رؤية ولا غاية، بلا تقدم ولا طموح ولا تغيير.

الانتباه واليقظة لهذا المشهد هو بداية طريق الإنسان لعدم الاستسلام لعجلة التكرار والنغمة الرتيبة لقطار العمر، ولكل إنسان طريق يناسبه هو للخروج عن رتابة قضبان القطار، واليقظة وسط جمهور النائمين في قطار العمر.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين