مم يتوب الناس؟

 

 

أما من عدا المؤمنين بالله الأحد، من مشركين ومعطلين، فتوبتهم لا تصح إلا إذا آمنوا بالله جلَّ شأنه، وتركوا المعاصي التي كان يؤزهم عليها جحدهم للألوهية، أو اعتقادهم في شركاء مع الله.

 روى أبو هريرة رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والذى نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار) .

 قال العلماء: إنما خص اليهود والنصارى بالذكر ـ مع أن الدعوة عامة للملل كلها ؛ لأنَّ هؤلاء أحسن من غيرهم حالاً فهم أصحاب كتب سماوية، وإذا ثبت هذا الحكم فيهم، فهو في من دونهم أوجب.

 ولا شك أن الشيوعيين والوجوديين وأحزابهم أنزل رتبة من أهل الكتاب على ما في عقائدهم من دخل.

 ونحن نصم بالكفر من عرض عليه الإيمان، واستمكن من الدخول فيه، ثم أبى، أما الذين ضلوا لعدم وجود المعلم الهادي، فوصفهم بالكفر مجاز وإلا فهم جهال.

 وعلى كلتا الحالتين فصحة التوبة من هؤلاء أن يَدَعوا ما هم فيه، وأن يعتنقوا ما أنزل الله في الرسالة الخاتمة.

 وفى حض المثلثين على التوبة يقول الله جل وعلا: [لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ(74) ]. {المائدة}. 

وكذلك توبة سائر الملل الأخرى، ما تصح إلا بعد الإيمان بالله الواحد، والاستعداد للقائه، ونبذ ما كانوا عليه من جاهلية، وإمضاء شرائع الإسلام جملة، تمشيا مع مبدأ السمع والطاعة.

 قال تعالى: [الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ(1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ(2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ....] {هود}. 

وتوبة المسلمين أنفسهم تكون من الذنوب التي لا يجمل بهم ارتكابها لأنها تنافي مقتضى الإيمان، فإذا أزلهم الشيطان إلى إثم فإنَّ ذلك يحسب عليهم، ليؤاخذوا به وصلتهم بالله لا تحميهم من عدله إذا استحقوا العقوبة.

 صحيح أنَّ الله تعالى أعد النار للكافرين، ولكن المسلمين يدخلونها إذا أسفوا وتهاووا في الذنوب ولذلك يقول لنا محذرا:  [وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ(131) وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ(132) وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ(133)]. {آل عمران}. 

 فإذا لم يتقوا، ويطيعوا، ويسارعوا...

 فما بد من أن يلقوا وبال أمرهم.

 وفي حضّ المسلمين على التوبة، والبعد عن المعاصي يقول الله عز وجل: [وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] {النور:31} 

ويقول: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ] {التَّحريم:8}  

 وهذه التوبة تستهدف أن يكون المسلمون عنواناً صحيحاً لدينهم، ومجلى لفضائله وآدابه.

 تدبر قوله صلى الله عليه وسلم : (المؤمن مرآة المؤمن، يكف عليه ضيعته، ويحوطه من ورائه).

 والجمل الثلاث التي يتكون منها الحديث تبرز مجتمعاً متناصحاً متعاوناً، يعمل المؤمن فيه على تنقية أخيه من العيوب، وعلى ضمان معيشته وصدق حمايته، حاضراً كان أم غائباً.

 فإذا تمزقت هذه العرى، ورأيت مجتمعاً متناقضاً تشيع فيه الأثرة والمظالم فأين يكون الإيمان؟.

 وهل يترك الله أمة تصنع ذلك بنفسها ورسالتها من غير عقوبة؟.

 والنصوص من الكتاب والسنة متضافرة  على أن ناسا من أهل التوحيد يدخلون النار لعدم وفائهم بحقوقه، ثم يخرجون منها بعد قضاء المدد المحكوم عليهم بها في هذا السجن اللعين ويلقبون بالجهنميين.

عن أبى سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : (يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، ثم يقول الله تعالى: أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، فيخرجون منها قد اسودوا فيلقون في نهر الحياة فينبتون كما تنبت الحبة في جانب السيل.

 ألم تر أنها تخرج صفراء ملتوية ).

 وهذا الحديث ـ وأمثاله كثير في الصحاح ـ قاطع بأن من أهل الإيمان من يعذب في النار لسوء عمله...

 على أن سوء العمل يتفاوت، وللناس عامة موازين تضبط الخير والشر ضبطاً دقيقاً.

 فمن كانت حسناته أرجح فهو على رجاء المغفرة:  [وَآَخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآَخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] {التوبة:102}.

 أما من عبث وغش وأفسد، ومرد على الشر، فلن يدخل الجنة بأقذاره النفسية هذه حتى يلتهب فيها عذاب جهنم.

 ونحن نرى أن المسلم يعذب على ذنوبه لأمرين: أولهما أنه أساء في خاصة نفسه، فالجزاء المرصد له عدل.

 والآخر أنه أساء للإسلام نفسه إذا تعاون مع غيره من الرعاع على إظهار الأمة في صورة تحقر دينها وتصرف الناس عن الثقة فيه والطمأنينة إليه.

 وهل كفرت أمم شتى بالإسلام إلا من سلوك هؤلاء؟.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر : كتاب الجانب العاطفي في الإسلام

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين