ملامح سور القرآن: سورة يس

سورة (يس) من عجائب القرآن، ومن السور المتعِبة في تبيُّن الخصوصية التي فيها، على أن القارئ يشعر بهذه الخصوصية، ولكنه لا يكاد يتبين مأتاها وعناصرها.

وفيها القصة العجيبة التي لا نظير لها في القرآن، وهي أن قرية أرسل الله إليها ثلاثة من الرسل كذَّبهم القوم، ثم جاء رجل من بعيد يؤازر هؤلاء الرسل في دعوتهم، ثم يقتل.

فهل العبرة الأساسية في القصة في مجاهدة هذا الرجل وتعرضه لتبعة ذلك، أي في شأن الدعوة، وأنه لم يقل: إن هؤلاء ثلاثة من الرسل يوحى إليهم، وليسوا في حاجة إلى رابع ليس رسولًا ولا يوحى إليه، يعرِّض نفسه للقتل؟ هذه عبرة ومثل، وهي مقصودة ويمكن فهمها، ولكنها فيما أظن ليست في مركز السياق والغرض العام.

فإذا استحضرنا أن القرآن يأتي بالمثل في قمة الدلالة على المراد، حتى يكون ما دونه من باب الأولى، كما جاء بمثل يوسف في الاستعفاف عن الفحشاء وهو شاب غريب مملوك في خلوة ومطلوب لا طالب، والطالب سيدته وهي ذات منصب وجمال، وقد تهيأت كل الأسباب للوقوع، فهذه حالة في ذروة الدواعي إلى الغواية، ولكنه قال: معاذ الله.

فمثَل هذا الرجل في سورة يس كذلك في الوضوح وبلوغ الغاية في الدلالة، ولكن العبرة المشار إليها هي الإيمان بالبعث، والخوف مما يكون بعده، ذلك أنه بعد جملتين من دعوة قومه، انعطف إلى خاصة نفسه، وقال: (وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون. أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئًا ولا ينقذون. إني إذا لفي ضلال مبين. إني آمنت بربكم فاسمعون)، فهذه أربع جمل كبيرة في أربع آيات، وهذا طويل بالقياس إلى: (اتبعوا المرسلين. اتبعوا من لا يسألكم أجرًا وهم مهتدون).

وانظر إلى قوله: (فطرني وإليه ترجعون)، فهو على سبيل ما يسمى في البلاغة الاحتباك، أي: فطرني وفطركم، وإليه أرجع وإليه ترجعون، فمبتدؤنا جميعًا منه، ومصيرنا جميعًا إليه. ولو لم يكن هذا مقصودًا لقال: فطرني وإليه أرجع، أو فطركم وإليه ترجعون.

ثم نجد أنفسنا فجأة وبلا توطئة وفي انتقالة خاطفة إلى مشهد آخر، مشهد دخول الجنة والكرامة فيها: (قيل: ادخل الجنة)، وهنا يعود الرجل إلى الشأن الدعوي، بعد أن ضمن نجاته: (قال: يا ليت قومي يعلمون. بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين)، لأنهم لو اطلعوا على ذلك لآمنوا، ولكن هؤلاء من الذين حق عليهم القول، فهم لا يؤمنون، كما جاء في مطلع السورة.

فمحور السورة إذن حديث عن الإيمان بالبعث، ولكن تحُفُّ بهذا المحور عناصر أخرى نجدها في مطلع السورة وفي وسطها. في مطلع السورة: ذكر القرآن الحكيم، والرسول الموحى إليه به للإنذار، ويتصل بذلك آيتان في الخواتيم: (وما علمناه الشعر) إلخ.

ثم الناس في مواجهة هذا الإنذار قسمان: قوم لا رجاء في إيمانهم اختاروا ذلك وأصروا عليه، فسُدت بين أيديهم السبل إليه، وقسم من أهل الخشية اتبعوا الذكر الذي جاءهم، ثم هناك إحصاء للأعمال في كتاب، وهناك إحياء للأموات للحساب.

في السورة آيات الخلق للاستدلال على إمكان البعث، وهي مبثوثة ومرئية، منها إحياء الأرض الموات، وإخراج الثمرات، وآيات الأفلاك العلوية في حركتها وجريانها إلى مستقر، والفُلك الذي يُركب في البحر الـمَخُوف المهلك، والأنعام المذللة ذات المنافع، والنار الموقدة من الشجر الأخضر الذي كان قبل يبسه ريان بالماء، فكيف انتقل ذو الماء إلى مصدر للنار؟

يمكن أن تلحظ في السورة عنصر السرعة والمباغتة، بدءًا من انتقال الرجل المؤازر للمرسلين إلى الدار الآخرة، وطي ما كان من مكر به وتربص حتى قُتل، ثم أخذ قومه بصيحة واحدة، وصيحة القيامة تأخذ الناس وهم يختصمون، لا يستتمون اختصامهم، حتى إن التاء سقطت من الكلمة، ثم نفخة تخرجهم من الأجداث وتحضرهم جميعًا، ويوم القيامة بعد حديث مطنب في نعيم أهل الجنة يقال لأهل النار في كلمة واحدة: (وامتازوا اليوم أيها المجرمون)، أي كونوا في ناحية وحدكم للحساب، ثم يوجه إليهم خطاب التقريع والتبكيت المفتتح بقوله: (ألم أعهد إليكم يابني آدم ألا تعبدوا الشيطان).

وفي السورة معنى لم يأت إلا هنا وفي سورة فصلت، وهو شهادة الجوارح التي ارتكبت الجرائم على المجرمين، ولكن السياق هنا يزيد معنى آخر لمزيد ارتباط بشئون البعث، وهو أن هذه الجوارح كانوا ممكَّنين من استعمالها في الدنيا، ولو شاء الله لطمس على أعينهم فلم يبصروا، أو لمسخ خلقتهم فلم يتحركوا، ولهم شاهد فيمن يُعَمَّر فينتكس خلقُه، وتضعف حواسُّه.

إن هذا التدبر لسور القرآن ممتع حقًّا، وجرِّبْ بعد أن تتفهم بعض المعاني والعلاقات أن تتلو السورة بتؤدة، لتجد لها طعمًا آخر.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين