ملامح سور القرآن: سورة لقمان

سورة لقمان هي سورة ما يكون من عمل الإنسان مساوقًا للوحي أو مضادًّا له أو بديلًا منه، مثله في الأول وصايا لقمان الحكيم، أوصى ابنه بوصايا من الحق والعدل الذي جاءت به النبوات، ومَثَله في الآخر مثل الذي يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله. وناسب لذلك وصف الكتاب في مطلعها بالحكمة، وأنه هدى ورحمة، ووصف المؤمن بأنه أسلم وجهه لله.

وموقع سورة لقمان بعد سورة الروم على معنى حضارات الأمم الغالبة وثقافاتها وما لها من علم وحكمة لا يغني عن الوحي الإلهي المنزه عن كل نقص وميل ومحاباة وتحيز، ولا يمنع ذلك اقتباس الحكمة إن كانت مسايرة للوحي لا مصادمة له، ومَثَلُها في حكمة لقمان.

وقد أشارت الآيات في شأن لقمان إلى النقص الإنساني بطريق التعريض، ذلك أنه أوصى ابنه بوصايا لم يذكر فيها حق الوالدين، وذلك من أجل مقام الوالدية من ابنه، فلم يتمكن من أن يوصي بنفسه، فكمل القرآن وصيته بأن ذكر ما يجب للوالدين من الإحسان، وكذلك كل إنسان يكون في قوله وإن صح نوع من النقص بسبب الضعف البشري في الجملة، وبسبب أنه في كل قضية له موقع يمنعه من النظر الكامل المبرأ من النقص، وفي ذلك عبرة بليغة.

وفي الوصية بالوالدين إلماح إلى تلقي الأدب الأول من الوالدين، فإن لم يكونا ممن ينحلون الأبناء هذا الأدب فليتبع الابن سبيل من أناب إلى الله، فسيجد العِوَض من والديه، ولا سيما إن لم يكونا مؤمنين، ودعَواه إلى الشرك بالله الذي خلقه.

وفي ذكر خلق الله في مقابل الذين لم يخلقوا شيئًا إشارة إلى علمه بمن خلق، كما قال: (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير)، أي يعلم ما يصلحه وما يصلحه له، كما خلق الإنسان وخلق له، وأنزل له ما يهديه من الأحكام والمواعظ وخبر الغيب والآخرة. وهو ينشئ بسبب وبغير سبب، كما أمسك السموات بغير عمد، وأمسك الأرض بالرواسي، وهو يعلِّم ويهدي أيضًا بسبب وبغير سبب.

وهذه الحكمة التي لبعض الناس إنما آتاها الله إياهم، وهي نعمة تستحق الشكر، وأول موعظة من مواعظ لقمان لابنه بعد النهي عن الشرك أن الله عليم بكل شيء ولو قل وتضاءل كحبة الخردل أين كانت في السموات أو في الأرض. ويناسبه الأمر بالتواضع، فلا شيء على الحقيقة يدعو إلى الكبر، والمواهب كلها إلهية، الفطرية منها والكسبية: (وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة)، ولذلك لا يحب الله المختال بهيئته، ولا الفخور بكلامه. وإنما الحكمة في المعنى فلا محوج إلى رفع الصوت، والبلوغ بالاستقامة على الصراط، وليس بالعجلة.

وفي أواخر السورة ذكر أن كلمات الله لا نفاد لها، ولو كان البحر مدادًا، وكان الشجر أقلامًا، وهي علمه وحكمته، ويصدر عنهما أمره ونهيه، وهو علم مباين لعلم البشر في النوع وفي المقدار، وهذا مثَل لتقريب اتساعه فحسب، وإلا فالبحر والشجر وكل ما خلق الله له غاية ينتهي إليها. ولا يقوم لعلم الله وحكمته علم البشر وحكمتهم، فقد خلقهم جميعًا على كثرتهم وطول أزمنتهم وتنوع مشاربهم ومعارفهم، وكان خلقهم وبعثهم كنفس واحدة.

وأظن أنه لهذه المعاني أوثر في السورة حرف الجر (إلى) في قوله: (وسخر الشمس والقمر كل يجري إلى أجل مسمى) على خلاف ما في سور الرعد وفاطر والزمر: (يجري لأجل)، فـ (إلى) أصل معناها الغاية، واللام أصل معناها الاختصاص، فكل الخلق له غاية ينتهي إليها، وليس كذلك علم الله.

وفي ختامها بمناسبة وصية لقمان لابنه ذكر أنه في يوم القيامة لا غَناء لوالد عن ولده، ولا لمولود عن والده، وفيه إشارة إلى الآباء والأجداد المتبوعين وإن ضلوا، كما جاء في وسط السورة، فكلٌّ رهين بعمله، والعلم المحيط بكل شيء لله، ولا يعلم منه الإنسان ما يتعلق بخاصة نفسه، فلا يدري ما يكون في غده، ولا مكان مماته، ولا زمانه بالضرورة، فضلا عن موعد قيام الساعة، وما تجنه الأرحام ليخرج إلى الحياة، فكله استأثر الله بعلمه الكامل، وما هي إلا أمثلة مسلَّمة لقصور علم الإنسان، علَّ ذلك يدعوه إلى التواضع، والتسليم لعلم الله وأمره وقدره.

وانظر كيف فرق بين قوله: (عنده علم الساعة)، وقوله: (وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام)، فالأول ينفي اطلاع المخلوقين البتة عليه، والآخر لا ينفي بعض العلم عنهم في ذلك.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين