ملامح سور القرآن: سورة فاطر

وسورة فاطر في شأن الرزق أيضًا، ولكن مع عَدِّ العلم بكتاب الكون وكتاب الوحي ضَرْبًا من الرزق، وفيها مزيد تنويه بالشاكرين، وقد اختُصر شأنهم في سورة سبأ، وقد فهمناه من سياق قصة داود وسليمان، ومن استثناء فريق من المؤمنين في قصة سبأ، ولم يذكر صراحة. ومن هنا جاء في سورة فاطر نفي استواء الأعمى والبصير، والظلمات والنور، والظل والحرور، والأحياء والأموات. وفيها ذكر الشيطان من أولها، والتحذير من عداوته، ووصفه بالغَرور، فهو الصادُّ عن الشكر، كما سلف.

وقد ناسب موضوع السورة التعبير بـ (فاطر)، لأنه المبتدئ للخلق، المبدع له، بلا سابق ولا شريك ولا ظهير، فكل ما يتعلمه البشر من علوم الخلق، وما يُرزقون وما يملكون، مبتدؤه من الله، ويخلق ما لا يرون وما لا يعلمون إلا بإخبار الله، كالملائكة.

هنا في سورة فاطر تجد ذكر الكلم الطيب قرين العمل الصالح، فيَرفع العملُ الصالح الكلمَ الطيب، على ما هو الراجح في معنى الآية، كما في دعاء إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام- وهما يرفعان قواعد البيت، وكما في دعاء أصحاب طالوت حين برزوا لجالوت وجنوده، وكما في دعاء الرِّبِّــــيِّين الذين يقاتلون مع الأنبياء، وكما في قول الأبرار الذين يطعمون الطعام على حبه، وكما في قول أولي الألباب الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم، وغير ذلك كثير.

وكثيرًا ما يكون تعديد النعم سَوْقًا للأمثال، فذَكَر البحرين وأنهما لا يستويان، أحدهما عذب فرات سائغ شرابه، والآخر ملح أجاج، بعد ذِكْر أصحاب العمل الصالح والكلم الطيب، وأصحاب المكر السيئ البائر الحائق بأهله، وذلك من ضرب المثَل.

وذِكْر الإضلال والهداية بمشيئة الله هو من الرحمة المرسلة أو الممسَكة، وعقَّبه بذكر إرسال الريح فتثير السحاب فيساق إلى بلد ميت لإحيائه، وتشبيه ذي الهداية وذي الضلال بالحي والميت شائع في القرآن، مع أنه مثَلٌ لإحياء الموتى أيضًا: (كذلك النشور).

وتجد في السورة ذكر الذين ينتفعون بالنذارة ويتعهدون أنفسهم بالتزكية، ومن أهم أسباب التزكية الخشية والصلاة: (إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة، ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه).

وتجد فيها ذكر تعريف أهل الخشية لله وأنهم هم العلماء: (إنما يخشى الله من عباده العلماء)، فالعلم الذي لا يورث الخشية ضرره أكبر من نفعه. ثم هؤلاء العلماء كما نفهم من الآية التالية هم من التالين كتابه، ومن المقيمين الصلاة، ومن المنفقين في السر والعلن، أي من أهل الجود لا الجمود. على أن هذا الكتاب كان ميراثًا، وورثه ثلاثة أصناف من الناس: الظالم لنفسه والمقتصد والسابق بالخيرات بإذن الله، فالتوريث والاستئمان ليس ضمانة للاستقامة، ولا للسبق.

وسُبقت آية الخشية بذكر اختلاف الألوان في الخلق، من الثمر والبشر والحجر والدواب، وذلك يشير إلى العلم بكتاب الخلق المنشور للتفكر والتدبر، فهو أيضًا سبيل إلى الله لو خالطت القلب الخشية والخشوع، وسبيل إلى البطر والمكر السيئ إن كان صاحبه من الذين زُين له سوء عمله فرآه حسنًا، وأضله الله على علم. ومن مادة (فاطر) اشتقت الفطرة أيضًا، فالخلق كله تقدير إلهي، ولعل علم الإنسان يدعوه إلى تغيير خلق الله، فيتبع الشيطان فيما أراد من ذلك.

وذكر الملائكة في المفتتح لأنهم يُرسَلون بالوحي، وبشئون الرزق، وبشئون العذاب وأخذ الظلمة. وذكرهم مناسب أيضًا لذكر التالين لكتاب الله على ما نعلم من حديث تشبيه الماهر بالقرآن بالسَّفَرة الكرام البررة، أي الملائكة كتبة الوحي. ولا شك أن أفضل الكلم الطيب المذكور في السورة هو القرآن.

وذكر التالين لكتاب الله في سورة موضوعها الرزق يشير إلى معنى جاء في بعض الآثار، وهو أنه من قرأ القرآن فهو غَنِـيٌّ، فهو غِنًى بما فيه من العلم والذكر والحكمة والموعظة، وهو غِنًى بالبركة وتيسير الرزق لمن انقطع إلى تعلمه وتعليمه.

وتحلية مَن أُورِث الكتاب وأنعم الله عليه بالأساور من الذهب واللؤلؤ في الجنة مناسب لما جاء في الأحاديث من إلباس صاحب القرآن وإلباس والديه تاج الكرامة.

وذكر التعمير في أول السورة: (وما يُعَمَّر من مُعَمَّر ولا يُنْقَص من عمره إلا في كتاب)، وفي آخرها: (أو لم نعمِّرْكم ما يَتَذَكَّر فيه مَن تَذَكَّر)، لأن العمر من الرزق، ومن أسباب العلم أيضًا، وهو إمهال لاستدراك ما فات. وللبشر على الأرض عمر: (إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد)، وللكون عمر: (إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا)، فليس استمرار الحياة إلا منحة إلهية لمن أراد أن يذَّكَّر أو أراد شكورًا.

وقد جاء قوله تعالى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى) في القرآن في خمسة مواضع، ولم يُرْدَف بما يؤكد معناه إلا هنا: (وإن تدع مثقَلة إلى حِمْلها لا يُحْمَل منه شيء ولو كان ذا قربى)، لأن الاستكثار من العطايا الإلهية مع مرور الزمن حمل ثقيل إن لم يُؤَدَّ شكرها، وإن لم تصرف في وجهها، لأنها تكون أوزارًا، فطول العمر نعمة مع حسن العمل، وهو خسران بغير ذلك، كما قال: (والعصر إن الإنسان لفي خسر) السورة.

وتختم السورة بأن سنن الله ماضية، والدليل على ذلك الأمم السابقة، ولكنها بأجل مسمى، وبعد إمهال، لأنه لو كانت العقوبة قرينة المخالفة لما بقي على الأرض دابة. وفي هذا تحذير لأهل الغفلة، فما يدريهم أن الأجل قريب أو بعيد.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين