ملامح سور القرآن: سورة سبأ

سورة سبأ في شأن الرزق وما يفعل به العبد المرزوق من الشكر أو الكفر، وكما في كل معاني السور في القرآن تكون الآخرة مرآة للدنيا، يكون فيها تحصيل الأعمال والأقوال والجزاء عليها. وفي السورة ذكر للشيطان لأنه الـمُغري بالكفران: (ولقد صدَّق عليهم إبليس ظنَّه)، ذلك أنه قال: (ولا تجد أكثرهم شاكرين). وسماه الجن في قوله على لسان الملائكة يوم القيامة: (بل كانوا يعبدون الجن)، وهذا كما جاء في سورة يس: (ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان)، وتسميته الجن ينظر إلى ما ذكر من شأن الجن المسخَّر لسليمان، وهم لا يعلمون الغيب، حتى إنهم لبثوا في عملهم لسليمان وقد مات. وسماهم الجن مع أنه قال في سورة الأنبياء: (ومن الشياطين من يغوصون له) لأنه التعبير هنا ينظر إلى شأن الرزق المكفول لقسمي الخلق المكلفين من الجن والإنس، كما قال: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون. ما أريد منهم من رزق) الآيات، والشياطين بعض من الجن، وهم الـمَرَدة الكفرة.

وذكرت السورة مثالين لشاكر النعمة وكافرها، المثال الأول في آل داود، والثاني في أهل سبأ، كلاهما أنعم الله عليه بنعم جليلة، فأما داود فقد جعل الله الجبال معينة له على ذكره، وعلَّمه صنعة الحديد وألانه له حتى صار كالعجين، وأما ابنه سليمان فسخَّر له الريح وأخدمه الجن، عملوا له حتى بعد موته، وما دروا بموته إلا من خروره إذ أكلت الأرضة عصاه. فشكر آل داود نعمة الله، وعملوا صالحًا كما أمرهم الله.

وأما أهل سبأ فأنعم الله عليهم ببلدة طيبة وبجنتين في ناحيتين، وأمهلهم وتجاوز عن كثير من سيئاتهم، ورزقهم الأمن واليسر في مسالكهم، إذ جعل على طريق أسفارهم قرى يأنسون فيها ويتزودون، فقد جمع لهم الإطعام والأمن، والبهجة والتيسير، فأعرضوا واعتدوا وظلموا، فسُلبوا النعمتين، فأما نعمة الرزق فأرسل الله عليهم سيل العَرِم فخرَّب الجنتين، وأذهب ما كان لهم من ثمرات، وصاروا لا يجدون إلا الرديء والبشع والمر من المآكل، وأما نعمة الأمن فإنهم مُزِّقوا كل ممزق، وفُرِّقوا حتى صاروا مثلًا مضروبًا، فقالت العرب: تفرقوا أيادي سبا، وحتى صاروا خبرًا بعد عين، وأحاديث يتحدث بها الناس، وكذلك جزاء الكافرين.

ومن العجيب بطرهم بالنعمة حتى قالوا: (ربَّنا باعِدْ بين أسفارنا)، كما سأل بنو إسراءيل الثوم والبصل واستبدلوهما بالمنَّ والسلوى، أو كما قال كفار قريش على سبيل التهكم: (إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب اليم)، وكذلك يكون تبديل نعمة الله كفرًا، وهذا مشاهد في الناس، إذ يتركون الطيب مما أنعم الله به عليهم، ويجرون وراء الرديء والنكِد، ويفضِّلونه ويحرصون عليه.

وفي هذا القول الذي قالوه ما يشير إلى صلة بسورة الأحزاب وقد عُنيت بالقول والتسديد فيه، فكثيرًا ما يعتدي المرء في قوله ودعائه فيجاوز القصد والعدل، أو يدعو بالشر إما بطرًا وإما عنادًا.

وفيها من مشاهد القيامة على ما ذكرت، وقد استوقفني تلاوم المستضعفين والمستكبرين في موقف الحشر، وذلك يبين لنا شيئًا مما طُوي من قصة سبأ، فإنهم تبعوا سادتهم وكبراءهم، وجعلوا لله الأنداد، وأعرضوا عما وعظهم به فريق المؤمنين المذكورين في السورة.

وفي السورة من شئون الرزق آيات وسنن ومواعظ، فمنها أن الـمُلك كله لله، وأن الحمد له على كل حال، وأنه يبسط الرزق ويقدر، وأنه يعلم كل شيء لا يعزب عنه مثقال ذرة، وأن أكثر الكفر في المترفين، وأن الأموال بنفسها لا تقرب من الله ولكن الإيمان والعمل الصالح، وأن كل إنفاق من العبد يقابله إخلاف له من الله، وأن الملائكة والجن لا يملكون من الأمر شيئًا، ولو مثقال ذرة.

وفي ختام السورة مشهد من القيامة كما في أولها، وقبل ذلك استدلال بأن النبي -عليه الصلاة والسلام- لا يطلب أجرًا على دعوته، وأنه ليس به جِنَّة لو تفكروا وتخلصوا من تأثير الجماعة المتمالئة على الباطل بمكر الليل والنهار، والله يقذف بالحق على الباطل.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين